تحولت العاصمة العُمانية «مسقط» لوجهة جديدة يحج إليها وفود دولية ومحلية فاعلة في الملف اليمني، وباتت الوسيط الرئيس والمقبول من جميع الأطراف؛ إذ تجري مفاوضات وحراك سياسي كبير يهدف لإنهاء الحرب وحل الخلافات بين الأطراف المتحاربة.

هذا الحراك السياسي يعد الأول من نوعه، الذي يجري بهذه الكثافة والمشاركة الدولية التي يبدو أن جميع الأطراف فيها تضغط على طرفي الصراع في اليمن لإيجاد حل سياسي يُنهي الحرب المستمرة منذ 2014 بعد سيطرة جماعة الحوثي على صنعاء وإعلان انقلابها على الحكومة.

وهنا تُطرح العديد من التساؤلات عن قدرة الدور العماني في اليمن على حلحلة الجمود الحاصل هناك منذ سنوات، دون إحراز أي تقدم في أي ملف، إذ يرى مراقبون أن مسقط مقبولة من الأطراف المحلية والدولية كي تكون وسيطًا يساعد في إنهاء الحرب المستعرة التي أودت بحياة ما لا يقل عن 233 ألف شخصٍ بينهم أطفال ونساء.

ميراث الفشل

جرت العديد من المفاوضات المباشرة وغير المباشرة بين الحكومة الشرعية وجماعة الحوثي، في سبيل إيجاد حلٍ يُنهي الحرب والخلافات العالقة بينهما، ولكن في كل مرة تضع العوائقَ والخطوط الحمراء أطرافٌ دولية تضغط باتجاهات مختلفة ومتضادة، وعند فشل هذه الاجتماعات يكيل كلا الطرفين الاتهامات للآخر متهمًا إياه بالتسبب بهذا الفشل، وحسب مراقبين، كان الحوثي أكثر تعنتًا ومراوغة وكان السبب الرئيس في رفض كثيرٍ من المبادرات التي تهدف لتحسين الوضع الإنساني في اليمن.

أولى هذه الاتفاقيات كان توقيع اتفاقية السلم والشراكة في 2014، والذي أتى بعد عدة ساعات من اجتياح الحوثي لصنعاء؛ إذ وقَّع الرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي وقيادات حوثية على الاتفاق، والذي نصَّ على تشكيل حكومة كفاءات من جميع أطياف اليمن، إلا أن الحوثي واصل تقدمه والسيطرة على باقي المحافظات؛ ما أفشل هذه الاتفاقية.

Embed from Getty Images

مؤتمر إعلان التبرعات للأزمة الإنسانية في اليمن بمكاتب الأمم المتحدة بجنيف

وانتقل بعدها الحوار بين طرفي الصراع الى جنيف في يونيو (حزيران) 2015، وذلك بعد ثلاثة أشهر فقط من انطلاق «عاصفة الحزم»، وكان الحوثي وقتها قد فرض سيطرته على مساحات واسعة من اليمن، خاصةً محافظات عدن وشبوة ولحج والضالع وتعز، ولم تحرز هذه المفاوضات أي تقدم يُذكر، بسبب تعنت الحوثي الذي رأى أنه أصبح قاب قوسين أو أدنى من فرض سيطرته على اليمن كاملًا.

وفي ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه، جرت مفاوضات وأُطلق عليها «جنيف 2» في مدينة بيل السويسرية، وأيضًا انتهت المفاوضات دون أي تقدم، بسبب فشل الهدنة، لتنطلق بعد أربعة شهور مفاوضات جديدة في أبريل (نيسان) 2016، في العاصمة الكويتية وانتهت فيها أربع جولات بدون التوصل لأي شيء.

وفي سبتمبر (أيلول) 2018، أُعلن انطلاق «جنيف 3»، ولكنها فشلت قبل أن تنطلق بسبب غياب الوفد الحوثي الذي تعذَّر بعدم وجود ضمانات كافية لعودتهم إلى صنعاء عقب انتهاء المشاورات، وبعد ثلاثة أشهر في ديسمبر من العام نفسه، جرت مشاورات بين الطرفين في العاصمة السويدية ستوكهولم، واتفق فيها الطرفان على ثلاثة ملفات تتضمن تبادل الأسرى، وفك الحصار عن مدينة تعز، وإعادة الانتشار في مدينة الحُديدة، إلا أن الحوثي لم ينفذ الملفين الأخيرين، وراوغ أكثر من مرةٍ في الملف الأول.

وفي أبريل (نيسان) 2020، توصل الطرفان إلى اتفاق في العاصمة الأردنية عَمَّان، على تبادل للأسرى وإطلاق سراح 1420 شخصًا في المرحلة الأولى، ونُفِّذ لمرةٍ واحدةٍ فقط؛ إذ كان من المقرر أن يجري تكرار العملية حتى تصفير السجون وتبادل كامل للأسرى، وفي فبراير (شباط) 2021، انتهت جولة مفاوضات تدعمها الأمم المتحدة لتبادل الأسرى دون اتفاق وبتحميل كل طرف منهما الآخر مسؤولية عدم إحراز تقدم.

وبالطبع لم تكن جماعة الحوثي هي السبب الرئيس الوحيد في فشل هذه المفاوضات؛ إذ إن الرياض أيضًا رفضت التنازل في عدد من الأمور، ولم تعطِ الضمانات التي يرغبها الحوثي في المسار السياسي، ورفضت مقترحات حوثية في بداية الأزمة تحدثت عن قبول الجماعة بالاعتراف بشرعية هادي مقابل عدم اقتحام صَعدة، وأيضًا رفضت الحكومة الشرعية تنازلات قدمها الحوثي واعتبرتها مناورة، كما أن السعودية والتحالف العربي فرض حصارًا خانقًا على اليمن؛ ما جعل التفاوض في أساسه غير متكافئ من وجهة نظر الحوثيين.

والآن تدور مفاوضات ومناقشات وصفها مراقبون بأنها تجري للمرة الأولى بهذه الكثافة والقوة والتركيز؛ إذ يُعتقد أن مسقط قادرة على إحداث خرق في الجمود الحاصل في اليمن، وربما يكون بداية لحلحلة الأوضاع ووضع أوزار الحرب، فهل تفعل السلطنة ما لم يتمكن غيرها من فعله؟

الدور العُماني في اليمن.. علاقات متشابكة

نَأَتْ سلطنة عمان منذ اليوم الأول لعاصفة الحزم بنفسها عن الحرب في اليمن، على عكس جميع الدول الخليجية التي شاركت بها ودعمتها، وهذه السياسة هي السمة العامة للسلطنة التي اعتمدتها دومًا في جميع ملفات المنطقة، فمثلًا لم تقطع علاقتها بشكلٍ كاملٍ مع دمشق، كما حافظت على علاقتها الجيدة مع أنقرة، وكذلك طوَّرت علاقتها مع إسرائيل، وأما علاقتها مع أطراف الصراع اليمني فقد كانت متشابكة تمامًا، إذ تُصرح بشكلٍ مستمر أنها مع «الشرعية اليمنية» وتعدها الممثل الوحيد للشعب اليمني، ولكنها في الوقت نفسه تتواصل مع جماعة الحوثي وتوفر لهم التسهيلات وتفتح لهم المشافي لعلاج جرحاهم.

وتستضيف السلطنة قيادات حوثية منذ عام 2018، على أراضيها؛ أهمهم الناطق الرسمي باسم الجماعة «محمد عبد السلام»، وتقدم لهم التسهيلات والسماح لهم بمغادرة مسقط إلى طهران والعودة بشكلٍ طبيعي، وكذلك اللقاءات الرسمية والسرية مع وفود الدول الأجنبية، وتسمح لهم بعمل لقاءات صحفية والتواصل السياسي مع اليمن، وجميع الأطراف الدولية، بدون أي عوائق.

Embed from Getty Images

محمد عبد السلام الناطق الرسمي باسم جماعة الحوثي

عملت السلطنة على طرح نفسها على أنها طرف حيادي في الحرب اليمنية، ولكنها في نظر البعض  أقرب لتصورات الحوثي منها لتصورات الحكومة الشرعية؛ ففي تقرير مفصل صادر عن منتدى السياسات العربية تحت عنوان «العلاقة بين سلطنة عُمان وجماعة الحوثي.. المحددات وآفاق التقارب المستقبلي» أشار إلى أن كثيرًا من مواقف مسقط يشي بأنَّ ما تحمله من تصورات للسلام وإنهاء الحرب يقترب بشكل أو بآخر من التصورات التي لدى جماعة الحوثي، كما تصف الجماعة الدور العماني بالمحايد والنزيه».

كما أشار التقرير الى وجود اتهامات بعبور أسلحة إيرانية لجماعة الحوثي عبر الأراضي العُمانية، وتحت أعين السلطات العمانية، وعلى الرغم من نفي مسقط لهذا الأمر، فإن قدرة الحوثيين العسكرية تطورت بشكل كبيرٍ جدًا، وأصبحت تملك أسلحة لم يكن الجيش اليمني يملكها؛ مثل الطائرات المسيرة وأنواع جديدة من صواريخ كروز، وأيضًا القدرة على تصنيع صواريخ وأسلحة متطورة؛ ما يفتح باب الشك بأن الجماعة قادرة على خرق حظر توريد الأسلحة المفروض عليها، وقد تكون أراضي السلطنة أحد نقاط عبور هذه الأسلحة.

تغريد السلطنة خارج سرب دول الخليج وخارج التحالف العربي، جعل منها وسيطًا مقبولًا لجميع الأطراف الإقليمية والدولية، فهي بقربها من الحوثي وإيران تستطيع الضغط وتغيير المعادلة، وهذا ما تسعى له السعودية، لوقف الحرب التي استنزفتها بشكل واضح، خاصةً بعد استهداف أراضيها ومطاراتها وحقول النفط، ويرى محللون أن مسقط بدفعٍ من الرياض تسعى للضغط على جماعة الحوثي من أجل وقف إطلاق النار، وتدشين مرحلة سياسية جديدة والقبول بالمبادرة السعودية، فهل تتمكن من ذلك؟

هل تنجح السلطنة فيما فشل فيه الآخرون؟

تملك سلطنة عمان المقومات التي تجعل منها الوسيط الذي يستطيع إنجاح عملية السلام في اليمن، خاصةً أن علاقتها ممتازة مع جماعة الحوثي وإيران، وكذلك علاقتها جيدة مع السعودية و«الحكومة الشرعية»، لذلك من الممكن أن تنجح فيما فشل فيه الآخرون، ولكن هل فعلًا تستطيع الضغط على الحوثي للحصول على تنازلات منه؟ خاصةً أن بمقدور السعودية الحصول على التنازلات المطلوبة من «الحكومة الشرعية».

وبالحديث عن التنازلات قال عبد الله المعلمي، المندوب السعودي الدائم لدى الأمم المتحدة، في حوارٍ تلفزيونيٍّ على قناة «روسيا اليوم»: «المبادرة السعودية ليست كتابًا منزلًا وبالإمكان إدراج تعديلات تتفق عليها الأطراف وخاصةً جماعة الحوثي والحكومة الشرعية، لكن نشعر بأن المبادرة متوازنة، وحققت مطالب جميع الأطراف، واستجابت لما كان يطلبه الحوثيون أنفسهم، ونحن لا نرى ما هو الشيء الذي يمكن تعديله أو إضافته، ولكن إذا اتضح وجود ثغرات أو وجود نواقص؛ فنحن مستعدون لذلك».

التصريحات السعودية هذه ليست بمنأى عن التحركات الدولية التي يبدو أنها جادة هذه المرة في التوصل لإنهاء الحرب اليمنية، فالمبعوثان الأمريكي والأُممي إلى اليمن كانا في زيارة مطوَّلة إلى العاصمة العُمانية مسقط، تزامنت مع زيارة لوزير الخارجية السعودي، تلاها زيارة «آن ليندي» وزيرة الخارجية السويدية؛ حيث التقت الوفد الحوثي في مسقط بعد جولةٍ في المنطقة شملت الرياض وأجزاء من اليمن، فيما يبدو أن الرياض مستعدة للتنازل في سبيل وقف إطلاق النار.

وأول هذه التنازلات كان سماح السعودية بهبوط طائرة عمانية في مطار صنعاء على متنها وفد عماني برفقة الناطق الرسمي باسم جماعة الحوثي «محمد عبد السلام» وعددٍ من القيادات الحوثية التي كانت مقيمةً في مسقط؛ إذ كانت الرياض قد منعت عودة هذه القيادات إلى صنعاء سابقًا.

وعن الوفد العماني الذي وصل إلى صنعاء، فقد ذكرت عدة مصادر صحفية أن الوفد بدأ على الفور بمناقشات واسعة وسرية مع قيادات حوثية، بينهم رئيس المجلس السياسي لجماعة الحوثي «مهدي المشاط»، والناطق باسم الجماعة ورئيس الوفد الحوثي «محمد عبد السلام»، ونائبه «جلال الرويشان»، وأيضًا نائب وزير الخارجية في حكومة الإنقاذ حسين العزي، ورئيس جهاز الأمن والاستخبارات اللواء عبد الحكيم الخيواني، وغيرهم من قيادات وأعضاء الجماعة، كما التقى الوفد العماني أيضًا بزعيم الحركة «عبد الملك الحوثي»، ولكن بواسطة الإنترنت من وراء الشاشة.

كما قام «أحمد بن مبارك» وزير الخارجية اليمني في «الحكومة الشرعية» هو الآخر بزيارة مسقط في الوقت الذي يوجد فيه الوفد العماني في صنعاء، وقد بحث مع نظيره العماني الجهود التي تقوم بها السلطنة في سبيل إنهاء الحرب، ودعا مبارك جماعة الحوثي لأن تغتنم المبادرات المتتالية لإحلال السلام وعدم تفويت الفرصة لما فيه مصلحة الشعب اليمني، مؤكدًا أن حكومته قد قدمت العديد من التنازلات منذ بداية الحرب.

Embed from Getty Images

وزير الخارجية العماني يلتقي بنظيره اليمني في العاصمة العُمانية مسقط

ولكن وعلى النقيض من ذلك، هناك من يرى أن إحداث أي خرق في جمود العملية السياسية التي تقوم بها عمان، سيكون مرتبطًا بمحادثات فِيينَّا، التي تجري بين واشنطن وطهران بخصوص الملف النووي الإيراني، وذلك لأنَّ أي تنازل يقوم به الحوثيون سيكون بموافقة من إيران، فهل تعطي الضوء الأخضر لذلك؟ في تغريدة لرئيس تحرير موقع «رأي اليمن»، خليل العمري، قال إن «المؤشرات تؤكد فشل الوفد العماني الذي التقى زعيم الحوثيين في تحقيق أي خرق في جهود إحياء عملية السلام في اليمن».

وفي الحقيقة لم يصدر أي شيء بشكل رسمي من قِبل الوفد العماني أو الحوثيين، ولكن إذا ما فشلت فعلًا مسقط في تغيير الواقع، فسيكون السؤال الحقيقي هو: كيف ستتعامل السلطنة مع الحوثيين مستقبلًا؟ يقول الصحافي اليمني المستقل «سامي نعمان» لـ«ساسة بوست» إن «الوسيط العماني في غاية التكتم والغموض والحرص، وبالتأكيد فإن مفاوضاته في صنعاء جاءت لنقل رسائل مرنة، والتفاوض حولها، بما يمكِّنهم من تحقيق اختراقٍ ما على صعيد تنفيذ الخطة الأُممية، ومن المحتمل أن يكون هناك اختراق إذا جاز التعبير لكنه سيصطدم غالبًا بالتفاصيل».

عربي

منذ سنتين
هل يكون 2021 عام انتهاء الحرب اليمنية؟

يضيف نعمان بخصوص وجود الوفد العماني في صنعاء «ما لم يعطه الوفد الحوثي في مسقط، لن يعطيه في صنعاء؛ إذ إن قرار الجماعة يعتمد على أجندة طهران، فالحوثي معروف عنه قبوله المبادرات وهي إحدى مسارات الحرب، واتفاق ستوكهولم بخصوص الحُديدة خير دليل على ذلك، إذ لم ينفذ منه أي بند».

ويرى نعمان أن «الحل السياسي أعقد بكثير مما يتصوره الوسطاء أو يتجاهلون تعقيداته ويتعاملون بسطحيةٍ مع القشور، الحل السياسي بعيد؛ إذ لا توجد أرضية ملائمة للحل، فكيف ونحن نتفاوض على وضع أشبه بدولتين مع كثير من التشوهات والانقسامات والتعقيدات المحلية والإقليمية»، وعن التنازلات المتوقعة يقول نعمان إن «التحالف والحكومة الشرعية سيقدمان مزيدًا من التنازلات بضغوط أمريكية ودون مقابل أو بمقابلٍ وهميٍّ».

ويجري الحديث في الأوساط الصحفية والمحلية عن أن التحالف العربي سيسمح بعودة مطار صنعاء الدولي للعمل مرةً أخرى، وهو أحد أهم مطالب جماعة الحوثي بشكلٍ أساسي بالإضافة لرفع الحصار ووقف الغارات الجوية، ولكن ما المقابل الذي سيتنازل عنه الحوثي خاصةً أن هجومه على محافظة مأرب لا يزال مستمرًّا دون توقف؟

وعلى ما يبدو أن الحوثي لا يفكر بالتنازل عن أي شيء؛ إذ صرح المجلس السياسي للجماعة أن «مطالبهم في أي محادثات قادمة هي رفع الحصار ووقف العدوان وخروج القوات الأجنبية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لليمن، معتبرًا فتح مطار صنعاء وميناء الحُديدة استحقاقًا إنسانيًّا بسيطًا ولا يُعدُّ مَكرُمةً من أحدٍ».

من الممكن أن تتمكن سلطنة عمان من إحداث خرق في المباحثات اليمنية المتصلبة، وتحصل على تنازلاتٍ من جماعة الحوثي والسعودية والحكومة الشرعية، ولكنَّ الحوثي عوَّدنا في الجولات السابقة على قبول المفاوضات والاتفاقيات، ولكنه في الوقت نفسه، لا ينفذ منها أي شيء في المراحل التالية، ودائمًا ما يقولون «يكمُن الشيطان في التفاصيل»، وتعقيدات المشهد اليمني فيها من التفاصيل الكثير.

المصادر

تحميل المزيد