«الذين تحركوا في العشرين من يوليو (تموز) 1944 هم قدوة لنا.. العصيان يُصبح أحيانًا واجبًا!» – المستشارة الألمانية ميركل عن عملية فالكيري
أمام دُفعة من المجندين الجدد، قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل هذه الكلمات، يوم 20 يوليو 2019، ذلك اليوم من كل عام الذي يؤدي فيه دفعات عسكرية جديدة القسم، وتحيي فيه ألمانيا ذكرى مقدسة لمحاولة اغتيال أكبر رؤسائها، الفهرر إدولف هتلر في محاولة انقلاب عسكري فاشلة عُرفت بـ«عملية فالكيري»، تسببت في إعدام منفذيها الذين كرّمتهم ميركل ووضعت باقات الزهور على قبورهم، معتبرةً أن أعمالهم ساعدت الشعب الألماني في استيعاب دروس التاريخ لرسم مستقبل سلمي.
شتاوفنبرج.. منفذ «فالكيري» الذي أحب النازية ثم تمرد عليها
بطل محاولة الاغتيال الفاشلة، كان الظابط الألماني، كلاوس فون شتاوفنبرج، ذلك الظابط رفيع المستوى الذي أيّد العمليات العسكرية النازية في البداية، ثم حاول اغتيال الزعيم النازي أدولف هتلر (1933-1945)، بعدما أُصيب كلاوس فون شتاوفنبرج في تونس أثناء الحرب العالمية الثانية.
ولد كلاوس فون شتاوفنبرج في أسرة أرستقراطية ألمانية عام 1907، وقبل إتمام العشرين من عمره التحق بالجيش الألماني عام 1926، قبل وصول هتلر لحكم ألمانيا بسبع سنوات. خلال الحرب العالمية الثانية أصبح كلاوس فون شتاوفنبرج ضابطًا بسلاح المدرعات الألمانية وشارك في الحملة الألمانية في بولندا وشمال فرنسا، ثم انتقل إلى مواجهة الجبهة السوفيتية، وبناءً على طلبه، انتقل كلاوس فون شتاوفنبرج إلى الحملة الألمانية في شمال أفريقيا تحديدًا، تونس حيث أُصيب إصابة بالغة في جسد أفقدته عينه اليُسرى ويده اليُمنى، وإصبعين من يده اليُسرى في عام 1942.
ذلك العام الذي بدأ فيه كلاوس فون شتاوفنبرج الغضب من السياسات النازية التوسعية في الحرب وفتح جبهات جديدة، وبحسب كتاب «Luck of the Devil: The Story of Operation Valkyrie (ضربة حظ.. قصة عملية فالكيري)» لمؤلفه الكاتب التاريخي إيان كيرشو، فإن يوم 24 سبتمبر (أيلول) 1942، قد شهد أول إعلان لشتاوفنبرج ينتقد فيه هتلر عندما قال بين مجموعة من العسكريين: «هتلر هو المسؤول الرئيس. ولإجراء تبدل حقيقي في مجريات الأمور، تنبغي إزاحته والتخلّص منه. وأنا مستعد لفعل ذلك»، صمت المستمعون، ولكن يبدو أن كثيرًا منهم كانوا يشاركونه أفكاره!
المستشارة الألمانية أمام صورة كلاوس فون شتاوفنبرج في معرض تكريم معارضي النازية
خلال عامي 1942 و1943 بدأت أفكار كلاوس فون شتاوفنبرج للتحول أكثر من دعم النازية إلى الوقوف أمام هتلر، عندما شاهد معاناة المدنيين من الغزو النازي، والرغبة النازية في التوسع أكبر، من هنا تبلورت لدى شتاوفنبرج قناعات بأن هتلر «مُستبد يبحث دائمًا عن مصلحته وليس عن مصلحة رعاياه». فاتخذ من فترة علاجه «هدنة» يفكر خلالها بتحويل غضبه إلى فعل بالتخلص ممن تسبب في معاناة الملايين في حرب وحشية، أفقدت كلاوس فون شتاوفنبرج نفسه أجزاءً لا تُشترى من عينه وأطرافه.
تشكيلة «عملية فالكيري».. فلنصنع الأزمة ثم نوفر الحل!
الغضب المكتوم لكلاوس فون شتاوفنبرج لم يُضعف من ثقة هتلر فيه، فاستمر في الصعود للمناصب العسكرية، حتى أصبح في عام 1944، رئيسًا لأركان الجيش الاحتياطي الألماني، ذلك الجيش الذي يحمل مهمة رئيسة تُعرف بـ«عملية فالكيري»، التي تقضي بتسلم الجيش الاحتياطي السلطة الألمانية إذا تعرض هتلر للخطر، أو انهار النظام المدني العام في البلاد.
وبدلًا عن حماية هتلر والحفاظ على النازية، فكر كلاوس فون شتاوفنبرج ليس فقط في تعريض هتلر للخطر، بل اغتياله هو شخصيًا، والاستيلاء على السلطة، في مؤامرة عسكرية للإطاحة بهتلر من الحكم والحياة، ولم يكن كلاوس فون شتاوفنبرج وحيدًا ولكن شاركه مجموعة من كبار القادة العسكريين في الجيش الألماني.
من أبرزهم: الكلونيل فريدريش أولبريشت، والكولونيل لودفيك بيك الرئيس السابق لأركان الجيش الألماني، والمشير المقرب من هتلر إروين روميل، أما الجنرال فريدريش فروم، القائد الأعلى للجيش الاحتياطي الألماني، فقد علم بالمؤامرة التي تُحاك لهتلر، ولكنه «غضّ الطرف» ولم يُبلغ عنها وأخذ موقف الحياد، في انتظار الرابح من المؤامرة ليحدد الطرف الذي سيقف معه.
كانت «فالكيري» ترتكز على التخلص من هتلر، واستبداله بحكومة جديدة تحفظ ألمانيا من الخطر والدمار الذي يسببه هتلر وحلفاؤه لها، بحسب قادتها الذين خططوا لقتل هتلر، والسيطرة على الحكم في البلاد، بمساعدة جنود جيش الاحتياط المنتشر في أنحاء ألمانيا، والذي سيتلقى الأوامر من كلاوس فون شتاوفنبرج رئيس أركان الجيش الاحتياطي.
الحظ يحفظ حياة هتلر ويفتك بمعارضيه
وفي يوم 20 يوليو 1944 وجد كلاوس فون شتاوفنبرج أن الوقت قد حان للتخلص من هتلر، بعدما دعاه الفهرر وسط مجموعة من أرفع القادة العسكريين لمناقشة تطورات الحرب في مخبأ هتلر العسكري المعروف باسم «عرين الذئب»، وفي الظهيرة حضر كلاوس فون شتاوفنبرج الاجتماع ومعه حقيبة مُلغمة، استهدف وضعها أسفل طاولة الاجتماع التي يقوده هتلر.
وبحجة الرد على الهاتف خرج كلاوس فون شتاوفنبرج من غرفة الاجتماع ولم يعد، ثم انفجرت حقيبته الملغمة في الساعة 12:45 تقريبا، وابتعد كلاوس فون شتاوفنبرج وهو متطمئنًا بأن «هتلر مات». وهو خبر انتشر فعلًا في البلاد، تمهيدًا لاستيلاء الجيش الاحتياطي على الحكم، ولكنه لم يكن صحيحًا، فالقنبلة قتلت عسكريًا وأصابت ثلاثة بجروح خطيرة، وخرج هتلر حيًا بجروح طفيفة، بل نفى الخبر بصوته على وسائل الإعلام، وقابل في اليوم نفسه حليفه بنيتو موسوليني، وعاينا معًا موقع الانفجار، وعاد هتلر لينتقم.
فيديو يُلخص عملية فالكيري ويظهر استقبال هتلر لموسوليني بعد محاولة اغتيال الفهرر:
مالت الكفة لصالح هتلر إذًا، استبق فروم الأحداث، وحاول التنصل من المتآمرين ونفي علاقته بهم، عندما ألقى القبض على كلاوس فون شتاوفنبرج وأولبريشت وأعدمهم بتهمة محاولة الانقلاب على هتلر في الليلة التالية للانفجار. ولكن ذلك لم يمنع النازيين من إلقاء القبض عليه يوم 22 يوليو، قبل أن يُخلي سبيله لعدم إثبات صلته بمحاولة الانقلاب، ولكنه جرد من الخدمة العسكرية بعد ذلك، وأُعدم في 1945 بتهمة جبنه في الوقوف أمام المتآمرين.
هتلر حيًا.. الذئب يخرج مصابًا من عرينه!
«بعد أن نجوت من الموت بطريقة غير عادية، فأنا الآن مقتنع أكثر من أي وقت مضى بأن القضية العظيمة التي أخدمها ستنجو من مخاطرها الحالية، وبأن كل شيء يمكن وضع حد له».
هكذا صرّح هتلر عقب نجاته من «عملية فالكيري»، وهي نجاة عززت أكثر من نازيته وفتحت النار على أعدائه ومعارضيه، وكان الآلاف منهم أمام خيارات ثلاثة، أحلاهم مُر: إما المحاكمة والإعدام، أو الانتحار، وأيسرها الاعتقال والإرسال إلى معسكرات النازية.
موقع «عملية فالكيري» الذي خرج منه هتلر حيًا
جرى إعدام 200 شخص يُعتقد أنهم تورطوا في المؤامرة ضد هتلر، وصُورت فيديوهات إعدامهم ليستمتع بها الفهرر في وقت فراغه، أما البعض من كبار القادة العسكريين فقد انتحروا، ومن أبرزهم إروين روميل وهو مشير عسكري كبير يحظى باحترام كبير لدى هتلر، وفضّل الانتحار على الاعدام من المحاكمة، ولرمزية روميل بالنسبة للنظام النازي تستّر هتلر على خيانته، وأقام له جنازة رسمية بعد انتحاره.
وخلال الأشهر التالية لفشل عملية فالكيري، أُعتقل أكثر من 7 آلاف شخص وأرسلو إلى معسكرات الاعتقال النازية، ومنهم من لقي مصرعه، أما هتلر فقد انتحر في نهاية المطاف في 30 أبريل 1945، بعد تاريخ طويل في حكم ألمانيا امتد لـ22 عام، تحاول ألمانيا التنصل منه الآن واستنكاره، وتُكرم من حاول الانقلاب عليه، بل وتعتبرهم قُدوة حفظوا ماء الوجه، وأكدوا أن ليس كل الألمان كانوا مع نازية هتلر.
علامات
الفهرر, النازية, شتاوفنبرج, عرين الذئب, عملية فالكيري, مؤامرة, محاولة اغتيال هتلر, ميركل, هتلر, يوليو 1944