صباح ليلة شديدة المطر من ليالي مدينة جدة الساحلية، اتصلتْ بي إحدى قريباتي للاطمئنان عن حالنا بعد العاصفة التي ضربت المنطقة في اليوم السابق، دار بيننا حديث قصيرعن الحوادث التي وقعت في ذلك اليوم، أخبرتُها أنّ هناك أشخاصًا ماتوا بالصعق الكهربائي عند سقوط كابلات التغذية على المياه حسب ما سمعت، حزِنَتْ وتألّمتْ كثيرًا، وكان أول ما سألَتني «ما شكلُهم؟».

أجبتها مستدركًا: «ماذا تقصدين بما شكلُهم؟!». قالت لي وكأنها تبحث عن شيء يخفف تعاطفها وحزنها، هل هم بنغاليون؟ «تقصد من دولة بنغلادش».  فكان جوابي بداهةً وبشكل تلقائي، لا والله يا خالة ( للأسف) يبدو أنهم من أهل البلاد. فما كان منها إلا أن تضاعف حُزنها وغمُّها، وانطلقت تحوقل (تقول لا حول ولا قوة إلا بالله)، وأخذت تدعو لهم بالرحمة، ولأهلهم بالصبر و السلوان.

لحظات بعد أن أغلقتُ سماعة الهاتف، راجعتُ نفسي. حسنًا، لو كانوا فعلًا من الجنسية البنغلادشية ألنْ تتأسف حينها؟! لماذا هذا التمييز؟  لماذا السؤال أصلًا؟!  لماذا افتراض أن من يموت بمثل هذه الطريقة يجب أن يكون بنغاليًّا؟! أليست كُلّها نفسًا بشرية؟!

«ما شكلُهم؟» .. هذا السؤال النمطي البشع الذي غالبًا ما يتردد في المجتمعات التصنيفية، حيث المواقف من البشر غالبا ما تُبنى حسب الخانة التي يُوضعون بها، وما أكثرها من خانات، وما أقبحها من عادات. فرز غبي حسب الجنسية، الدين، الأصل والفصل، الرأي السياسي، ربما التيار الفكري، أو الخلفية الثقافية … إلى آخره من قائمة طويلة ممتدة بامتداد سجلات قيود النفوس في بلادنا، متشعّبة بتشعّبات مذاهبنا الفقهية، مختلفة باختلاف تيارتنا الفكرية ومناطقنا الجغرافية، تلك السجلات المُتخمة بالعقد الاجتماعية مخترقة الحدود العابرة للأجيال، وهاتيك المذاهب والتيارات التي لا تتوقف عن الانقسام والانشطار والتوالد، وفق متواليات لا حسابية ولا منطقية على الإطلاق، مذهب يُولّد مذهبًا، وتيار ينتج عنه ربما عشرات التيارات، ومع كل مذهب يُولد ومع كل تيار ينشأ، يُخلق لون جديد، وتُولد علبة ألوان جديدة، يرى النور بعدها طفلٌ آخر يحمل ريشة التصنيف في يده، يرضع مزيج ألوانه مع الحليب، وينطلق بعدها يمارس التلوين والتصنيف لأفراد مجتمعه، ثم لا يكاد ينجو نفسه من ذلك، ليتم صبغه هو الآخر بلون خاص به، أو ربما بمجموعة ألوان قد تختلف باختلاف مصادرها ومُلونيها، ثم يأخذ مكانًا له على أحد رفوف التصنيف، كيف لا وهو ابن هذا المجتمع، يحمل في جيناته طيفَ ألوانه، وقد تعلّم دليل تصنيفاته مع أولى خطواته.

بالمجمل نحن شعوب تعشق التصنيفات، نهوى الصبغات ونعشق الألوان، حبّ التلوين عندنا أمرٌ يُورث، حتمًا لسنا بِدعًا من الأمم، فالاختلاف سنة الحياة، والناس كثيرًا ما تبحث عمّن يشابهها، لتبدي معه تفاعلًا أكبر وتعاطفًا أكثر، المشكلة عندنا ليست في هذا بالضبط، المشكلة عندنا في عبثية هذه التصنيفات وحماقتها، في طريقة التعاطي معها.

كعفوية الفوضى التي نعشق، الأمر عندنا عشوائي تمامًا ولا يوجد له معايير أو ضوابط. أحد النقاشات مع صديق طرح وجهة نظر جيدة حول موضوع ما، أعجبني جدًا رأيه ولكن استغربت أنّ ما يظهر عليه في العَلَن خلاف ذلك تمامًا، سألتُه مستفسرًا عن السبب، فقال لي نحن محسوبون في البلد على طبقة المشايخ ولا يليق بنا هذا الأمر، عند هذه النقطة فقدتُ الرغبة تمامًا بنقاشه، واستسلمت لسيل تبريراته دون جدال أو أدنى مقاومة، لا أعلم صراحةً من أين جاءت طبقة المشايخ تلك، ولا ما يميزهم عن بقية بني البشر، ولماذا يجب أن تخالف قناعاتك من أجلها، ولا أريد أن أعلم، في النهاية هي حتمًا لون آخر يتم تلوين الناس به، صديقي هذا اختار لونَه بنفسه وألزمَ نفسَه بتبعاته، حسنًا لا بأس بذلك هذا شأنه، لكن المشكلة تكون عندما يُلونُك الآخرون على مزاجهم، عندما يتم تعليبُك ووضعك على أحد رفوف التصنيف وأنت لاعلم لك بذلك ولا خبر، غالبًا ما يتم مثل هذا الأمر بطريقة عشوائية غبية، كغباء عقليات التصنيف وسطحيتها.

في عصر الإنترنت وانفجار تكنولوجيا الاتصالات، لم يعد من المجدي كثيرًا اتّباع النظريات القديمة عن أنماط ثقافية أو فكرية مميزة للجماعات البشرية، على الأقل لا يصحّ اعتبار ذلك قاعدة مضطردة في تقييم الأفراد، الآن بات من المألوف جدًّا أن ترى شخصًا ملحدًا مثلًا يخرج من بيئة ظاهرها الالتزام الديني، أو العكس، متدين أو حتى متطرف دينيًا يخرج من بيئة بعيدة عن التدين، وقل مثل ذلك عن الأخلاق، العلم، المال، والثقافة إلخ … شئنا أم أبينا هذه طبيعة العصر الديناميكية التي يجب أن يعيها ديناصورات التصنيف ويتأقلموا معها، الأمر غدا أشبه بالجزر البشرية، لكل شخصية طابعها المستقل بشكل خاص، والتي قد تنمو أو تتدهور وفق معطيات وظروف لا حصر لها، لم تعد الأمور بالبساطة التي كانت عليها في العصور السابقة، شخصيات وقناعات الناس باتت في كثير من الحالات أمورًا متحولة، انتهى عصر الثوابت المطلقة، سؤال من قبيل ما شكله؟ لم يعد كافيًا ولا شافيًا، بل قد يبدو سخيفًا يسيء لصاحبه.

مشكلة حقيقية فعلًا عندما لا تستطيع التعامل مع الأشخاص دون وضعهم في خانة تصنيفية، أن تعجز عن التواصل مع البشر على الصعيد الإنساني، ألّا تتعاطف إلا مع من يشبهك، وأن تفقد لغة التواصل مع من يختلف عنك، أن تضيّع طاقتك بانتقاء ألوان للبشر وفرزهم حسب هذه الألوان، وأن تختار تحالفاتك وتخوض معاركك معتمدًا على أوهام تصنيفية، غالبًا ما تتم على أساس فروقات مجهرية لا يراها إلا أنت، فتزيد التشظي وتضاعف التفكك الذي نعيش، أحد كوارثنا الحقيقية هذه الطريقة بالتفكير، وللأسف لا يبدو أن هناك ضوء في آخر النفق.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

المجتمعات
تحميل المزيد