الجواب عن هذا السؤال يكمن تحديدًا في فهم طبيعة الأزمة الأوكرانية وأسبابها الظاهرة منها والخفية، ويكمن أيضًا في فهم طبيعة المشاريع الجيوسياسية المتزاحمة اليوم على الساحة الأوكرانية، وأجندة الدول الفاعلة والمؤثرة، بل المحركة للأزمة بين كييف وموسكو.
فهذا بالتحديد ما تحاول الولايات المتحدة الأمريكية فعله، وتواجهه روسيا بكل الوسائل، بما فيها أساليب القوة الصلبة، أي محاولة استقطاب أوكرانيا إلى المعسكر الغربي، وجعلها تحت مظلته الاقتصادية والعسكرية، لغاية في نفس واشنطن، وهي عزل روسيا عن محيطها الأوروبي.
والقصة هنا تبدأ مع انهيار الاتحاد السوفيتي بداية تسعينات القرن الماضي، واستقلال دوله وفك ارتباطها مع حلف وارسو، ثم انضمام أغلب هذه الدول لحلف الناتو، وتحول هذا الأخير من أداة للدفاع الجماعي إلى منظمة عسكرية تبحث عن استقطاب دول الجوار القريب الروسي.
فانضمام دول البلطيق: ليتوانيا، إستونيا، لاتفيا، إضافة لكل من بلغاريا، ورومانيا، وسلوفاكيا، وسلوفينيا، أوصل حلف الناتو إلى التخوم الروسية وأصبح الجزء الشمالي الغربي من الأراضي الروسية منكشفًا أمام أسلحة ورادارات الحلف، وهو ما تعتبره موسكو شللا لقدرتها على توجيه الضربة الثانية في حال تعرضت للأولى، وإبطالًا لقدرة صواريخها النووية العابرة للقارات على الوصول لأية نقطة على كوكب الأرض.
وبالتالي وجدت روسيا نفسها واقعة في دائرة التهديد الإستراتيجي في السياسات الأمريكية في أوروبا الشرقية، والتي تمثلت في سياسة التطويق التي نهجتها واشنطن مع روسيا من خلال دعم وتمويل توسع الناتو شرقا ليضم مناطق كانت تعد مجالًا للنفوذ الروسي، وإعادة ترتيب المنطقة السوفيتية السابقة، وإبعادها عن النفوذ الروسي، وحرمان روسيا من النفاذ إلى البحار الدافئة التي خسرت معظمها إبان تفكك الاتحاد السوفيتي، هذه البحار التي كانت تابعة لها، وتستعملها في عمليات التصدير والاستيراد.
والحديث هنا تحديدًا وتخصيصًا عن البحر الأسود الذي تعتبره موسكو ذا أهمية إستراتيجية كبرى بالنسبة لها، وجعلت تأمين الوصول إليه والتواجد فيه من الثوابت الجيوبوليتيكية التي تحكم سياستها الخارجية، كما تعتبر أن تكريس نفوذ الغرب في أوكرانيا، هو بمثابة تكريس للسيطرة على حركة الملاحة في البحر الأسود، فضلًا عن وجود تركيا – العضو في الناتو – في الساحل الجنوبي للبحر، وبلغاريا، ورومانيا، في الساحل الغربي، وجورجيا في الجزء الشرقي منه، لذا ينحسر وجود روسيا في الساحل الشرقي للبحر الأسود فقط، وهذا الجزء بدوره تسعى واشنطن لحرمان موسكو من التواجد فيه عبر دعم أوكرانيا وتحريضها على مجابهة التواجد الروسي فيه، خاصة مقر الأسطول البحري الروسي، قاعدة سيفاستابول، التي كانت تكتريها موسكو من كييف قبل أن تضم روسيا نهائيًا شبه جزيرة القرم سنة 2014.
وإدراكًا وووعيًا منها بطبيعة الأجندة الغربية، خاصة الأمريكية في المنطقة، تحاول روسيا التشبث بكل الوسائل بمصالحها الحيوية في المنطقة خاصة على المستوى الاقتصادي والطاقي، حتى لو استدعى ذلك الدخول في حرب مع الكل، وهو ما يفسر التحركات العسكرية الأخيرة على طول الحدود مع أوكرانيا، هذه الأخيرة تعول عليها روسيا لإعادة التوازن الإستراتيجي الذي كان سائدًا في المنطقة، على المستوى الاقتصادي على الأقل، رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية ما فتئت تتهم روسيا بالسعي للهيمنة على الفضاء الأوروبي والعالمي بلغة السلاح، وهو ما عكسته تصريحات المسؤولين الأمريكيين، حيث كرر الرئيس الأمريكي جو بايدن – ومعه وزيرا خارجيته ودفاعه – أن الغزو الروسي لأوكرانيا بات وشيكًا، رغم التطمينات الروسية، واعتبار موسكو للتصريحات الأمريكية مجرد تنصل للغرب من مسؤولياته، ومحاولة لتبرير توسع الناتو شرقًا، والذي تعتبر موسكو وقفه أحد أهم شروط حل الأزمة الأوكرانية، وتبحث عن اتفاق تفاوضي جديد مع الناتو يضمن لها وضعًا خاصًا، ويضع قيودًا على عملية توسيع الحلف شرقًا.
فتصاعد الخطاب الغربي المعادي لموسكو له ما له من المبررات، غير أن الصحيح أن التصور الروسي هو تصور ضد للهيمنة، عكس ما يدعيه الغرب، وبالتالي ليس من الموضوعي الحديث عن إستراتيجية روسية للهيمنة عالميًا، فرغم أن روسيا فلم تزل تشكل مصدر تهديد من المنظور الغربي، عسكريًا على الأقل، إلا أن موسكو روسيا ليست موسكو الاتحاد السوفيتي، كذلك فهي لا تمتلك مقومات هذه الهيمنة، إذ إن المصالح الروسية في أوروبا أو في المناطق الجيوستراتيجية الأخرى ليست أيديولوجية ولا عسكرية، ولكنها مصالح اقتصادية بالدرجة الأولى، فالمنطق الروسي في التعامل مع باقي دول العالم خاصة الدول العظمى، تحكمه البراجماتية وتؤطره المصالح القومية، فهي – أي روسيا – تعلم حدود قوتها، وحجم المصالح المشتركة بينها وبين القوى العظمى، وأهمية التعاون الدولي في القضايا المصيرية، لكنها في الوقت ذاته ترفض منطق التبعية، ولا تتردد في التصدي للسياسات التي تهدد مصالحها الحيوية الاقتصادية، وهذا ما يحدث في أوكرانيا تحديدًا.
وبين تصاعد التوتر بين موسكو وواشنطن حامية حمى الغرب، وتكهن المحللين باحتمالية الغزو الروسي لأوكرانيا، أو ضم إقليم دونباس على الأقل على طريقة القرم، وبين توقع أسوأ السيناريوهات لحل الأزمة الأوكرانية، وتهديد الولايات المتحدة الأمريكية لروسيا بالرد على أية عملية عسكرية في أوكرانيا عبر حلف الناتو، يثبت الواقع السياسي والتاريخي أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تفعل شيئًا لإنقاذ أوكرانيا، إعلاميًا وعبر حرب التصريحات في المحافل الدولية، لكن في اللحظة الحاسمة ستترك الشعب الأوكراني يواجه مصيره الذي دفعت حكومته إليه، وستكتفي بإنشاء جيوب مقاومة ومنظمات مسلحة في العمق الأوكراني لإبقاء موسكو منشغلة بضبط حدودها، أو في أحسن الأحوال افتعال نزاع جديد بين روسيا وتركيا على البحر الأسود.
فالثقة الزائدة في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي خطابها الإعلامي المندفع، يسبب السقوط من على أجنحة الطائرات، كما حدث في أفغانستان، ويسبب التقسيم كما حدث في العراق، وهي سياسة أمريكية معروفة، فهي تدفع بالدول والشعوب لجبهات القتال تحقيقًا لمصالحها، فها هي أوكرانيا ستصبح كبش فداء لإخافة أوروبا من روسيا، وضمان تبعية القارة العجوز اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا لواشنطن.
وفي واقع الأمر أن الولايات المتحدة الأمريكية إنما تسعى لتحييد روسيا جيوبوليتكيا وجيوإستراتيجيا بغية التفرغ لمواجهة التنين الصيني الذي يشكل أكبر تهديد لهيمنتها المستمرة على العالم، وقد بدأت بالفعل بتطبيق السيناريو الأوكراني مع الصين في تايوان وهونغ كونغ، لكن الصين ليست روسيا، وروسيا ليست الصين، نعم إنها الصين التي قال عنها نابليون بونابارت يومًا: إنها «وحش نائم في الشرق إذا قام سيفني العالم».
ومن هنا يتضح أن جواب سؤال انطلاقنا هو قطعًا: لا، لن تسمح الولايات المتحدة الأمريكية لروسيا، ولا للصين، بلعب لعبة القط والفأر على حدودها، حتى لو تطلب الأمر فناء الجنس البشري بحرب نووية لا يخرج منها أي طرف منتصرًا، فهل هو حلال على واشنطن وحرام على موسكو وبيكين؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست