لطالما تعالت الأصوات مُطالبة بالتغيير، وقد قُلناها سابقًا أنّه من المستحيلات السبع تغيير النظام في فترة وجيزة، لكن اختيار رئيس جديد للبلد حتميّة مطلقة لا بُدّ منها، مع شرط أن تتوافق مع مطالب الشارع.
نشهد في الأونة الأخيرة سحب استمارات التوقيعات للترشح في الرئاسيات المقبلة 12 ديسمبر (كانون الأول) 2019، ولكن المُلفت للانتباه هو ذلك العدد الهائل من الراغبين في الترشح والذي تجاوز المائة، من جميع الشرائح والأطياف والأحزاب، كما ترشح بعض الأسماء الثقيلة في الشأن السياسي والإعلامي، أعطى نكهة خاصة هاته المرة وبرهن على أنّ الجميع يريد الخروج من الأزمة.
غير أنّ المُعيب في ذلك هو حدّة التنافس والتي بدأت مُبكّرًا في أروقة السلطة الوطنية المستقلة المشرفة على هاته الإستحقاقات، إذ أصبحنا نعيش تبادل الاتهامات بين وجوه سياسية كانت أيضًا جزءًا من النظام السابق، كما وصل الأمر إلى الترشح نكاية في الآخر، ألم نستخلص العبر من الحراك الشعبي، ألا يوجد وجوه جديدة تمثّل الشارع لمرحلة جديدة، فلم نفس الأسماء والأحزاب دائمًا في الطليعة؟
ها هي التجربة التونسية تعطينا دروسًا في الديمقراطية وفي شفافية الصندوق، فإرادة الشعب في التغيير تجسّدت فعلًا في الواقع، فقد أزاح كّل الأطياف والاحزاب من سباق الرئاسيات، تاركًا آمالًا وأماني في كل من قيس سعيد ونبيل القروي السجين للتنافس في الدور الثاني، فلما لا نقتدي بأشقائنا التونسيين شعبًا وحكومة؟
الجميع يعلم بأنّه لا حّل سوى إجراء انتخابات وفي أقرب الآجال للخروج من الأزمة التي تعيشها البلاد منذ أكثر من سبعة أشهر، فالحكومة الحالية تعكف على توفير مناخ ملائم للعملية بتقديم الكثير من الضمانات، فمن تأسيس سلطة وطنية مستقلة وتعديل بعض مواد القانون العُضوي للانتخابات، إلى إصرار القيادة العسكرية على الحياد وعدم التدخل في هذا الشأن، فالأمر الآن بيد الشعب، وهو مصدر السلطة والقرار بيده، وكل الظروف مواتية لاختيار رئيسه ولو في ظل الأجواء المتوترة التي تعرفها البلاد من انقسامات في الرؤى والتشكيك في نزاهة العملية الانتخابية، إذ إنّ الأمر وصل إلى حد أن تجد بعض البلديات الرافضة للحّل الانتخابي، تعرقل سير التحضيرات للاستحقاقات، وذلك برفض المراجعة الاستثنائية للقوائم الانتخابية من بعض الأطراف، والتي تحسب على تيّار «الفرشيطة» الدعاة الرافضين للسلطة الحالية ككل، فهذا يُعّد تعديًّا على حقوق المواطن الدستورية في اختيار رئيس بلاده، فعن أي حريّة يُطالبون بها؟ فالجميع مُخيّرون مابين التصويت والُمقاطعة.
إنّ التراشق الإعلامي ما بين المترشحين أبان على أنّه ما زلت هناك عقلية رفض الأخر وتصفية حسابات تلوح في الأفق فعليهم الآن كسب تحدي جمع 60 ألف توقيع على مستوى 25 ولاية على الأقل، فإقناع الشعب وكسب ثقته المفقودة منذ زمن ليس بالأمر الهيّن، صحيح أنّ البلد مُنهكة اقتصاديًا واجتماعيًا، لكن كرامة المواطن البسيط فوق الجميع، فهو يتطلّع إلى حياة كريمة تسودها الأمن والاستقرار والاطمئنان والوحدة ما بين أطياف مجتمعه، لذا وجب على إخواننا المترشحّين أن يقدموا برامج أكثر واقعية وملموسة، بعيدًا عن الخطابات الشعبوية المثيرة للحماس والمُلهبة للمشاعر والوعود الزائفة.
الجزائر على أعتاب أصعب امتحان ديمقراطي للمرة الثاني وذلك بعد تشريعيات 1992، وإلغاء نتائجها وما أسفر عنها من عشرية سوداء، راح ضحيتها الآلاف من الأبرياء وأرهقت البلد اقتصاديًا واجتماعيًا، غير أنّ الفترة الحالية تتسم بالوعي الهائل لدى الشعب، واتسّاع مساحة الحريّة بالمقارنة بالفترة السائدة خلال التسعينات من القرن الماضي، وهو ما سيضفي على هذا الاستحقاق عُرسًا ديمقراطيًا، خاصة وإن لبّى الأغلبية استدعاء رئيس الدولة بالتصويت وتحقيق نسبة مشاركة عالية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست