عاد وائل غنيم، منذ أيام، للكتابة من جديد. أبدى أسباب اعتزاله الحياة السياسية واعتذر عنها. تململ الموالون للنظام وامتنع كثيرون عن التصويت للبرلمان وفُضِحَ النظام في الخارج. نجحت الحملة الشعبية في إقصاء ريهام سعيد ووقف دعم الشركات الممولة لبرنامجها. قطع صغيرة تجتمع لتكوين صورة ربما هي تتشكّل الآن.. هل هي قادمة؟ الثورة التالية، هل هي قادمة؟
ذلك هو السؤال الذي تساءله معظم رواد مواقع التواصل الاجتماعي على صفحاتهم الخاصة. أمّا أنا، فقد توقفت عند سؤال أعمق من هذا بكثير: إن حدثت المعجزة وقَدِمت حقًّا، الثورة، فمن الذي سيشارك بها؟
نزل من نزل في ثورة الخامس والعشرين من يناير. هبّوا لأنهم آمنوا حقًّا بمعنى الوطن، آمنوا حقًّا بأن الأرواح قد تُهَب فِداءً للأرض، بأننا قد “نموت نموت وتحيا مصر”. هؤلاء هم من شاركوا بثورة يناير. أُصيب من أُصيب منهم، استُشهد من استُشهد، وعاش من عاش. مرّت الأعوام ورأينا ما رأينا من تبدّل الأحوال، وإزهاق الأرواح، واستباحة الدماء، وتبجُّح الحُكّام، وتفشِّي الظلم البيّن والخَفي، حتى بات المرء منّا يبيتُ ليلته وهو لا يدري في أي قسم سيستيقظ ليجد نفسه، وفي أي قضية سيُزجُّ اسمه؟
كتب عمّنا جلال عامر ذات مرة: “لكن يبقى من عشق الوطن خريطة لا تتغير وتاريخ لا يموت، فعبر التاريخ يموت المواطن من أجل الوطن وليس العكس”. كنت أقرأ هذه المقولة فتمتلئ عيناي بالدموع تأثُّرًا بها، ثم حدث أن توقفت عندها منذ فترة قريبة وسألت: لماذا؟ لِمَ على المواطن أن يموت لأجل الوطن؟ هتاف “نموت نموت وتحيا مصر” الذي ارتجّت له الشوارع في جميع مظاهراتنا. أنظر له الآن فأجده الظلم بعينه؛ لِمَ علينا أن نموت لتحيا مصر؟ وما حياة مصر إن كانت هي ستحيا بدوننا؟ نحن الذين تجرّعنا المرارة كأسًا بعد الآخر لأجلها. أليس من الظلم أن نموت نحن وتعيش هي في يد من كانوا يشاهدونها تغرق من نوافذهم؟
حاولنا كثيرًا في تلك الأعوام التي تَلَت الثورة. حاولنا وحاولنا وحاولنا. توسّعت بركة الدماء لتشمل دماءً أكثر، سقط ضحايا أكثر وأكثر، لكننا لم نَمَلْ يومًا من المحاولة واستحداث الأمل. كان هذا إلى أن أتت تلك اللحظة التي أدركنا بها أن الواقع أكبر منا، أننا كلّما حاولنا تغييره، تمدّد هو بدوره ليبتلعنا داخل ظلماته ومآسيه. حتى اشتدّ الظلام وأضعنا الطريق وضلّت أبصارنا أثرَ النور الممتد في آخر النفق الكئيب. كانت تلك هي اللحظة التي قررنا فيها أن ننسحب من كل شيء. لا يدري أحدنا متى كانت تلك اللحظة تحديدًا، لكننا نعلم يقينًا أنها أتت، فأتت علينا أجمعين. انعزل من انعزل منا داخل قوقعته الخاصة، هاجر من هاجر، وانطلق الباقون يُفرغون غضبهم معظم الوقت برفع السباب للأرض وما عليها.
كل ذلك، يا سيّدي، يجعلني أتساءل بجديةٍ تامة: إن حدث حقًّا وتعالت الهتافات لأجل ثورة من جديد، فمن الذي سيشارك بها؟ من الذي سيغضب ويثور ونحن الذين اعتدنا كل شيء؟ من الذي سيسمح للأمل بأن يزوره من جديد ونحن الذين سئِمنا كذبه وأحلامه الطفولية الواهمة؟ ذاك الأمل الذي بات شبيهًا بالطفل الذي ظل يستنجد من الغرق ثم يضحك ساخرًا حين يهبُّ أحدهم لإنقاذه، حتى علمه الناس كذّابًا فبات لا يعيره أحد انتباهه ولا يجيب نداءاته أحد. لن نقع في نفس الحفرة كل مرة. لن نسمح للأمل أن يزورنا ويجعلنا ننطلق باسمه هاتفين ثم يأتي الواقع ويسحق ذلك كله.
لا أريد أن أغضبَك، فأنا لا أنظر فقط لنصف الكوب الفارغ. سأمضي معك للنهاية وأنظر آسِفَا للنصف الممتلئ. حسنًا، ماذا لو تمرّد البعض على الواقع المرير وهمّوا يفرغون غضبهم في الشوارع مُحدثين ثورةً من جديد؟ لن ينسى أحد قط ما حدث بيناير. لن ننسى قط الصفعات التي تلقيناها بعدها. هنالك، في الميدان، وحيث الهتاف متعالٍ والرصاص يصطكُّ بالرؤوس والقلوب تبلغ الحناجر، سينظر كلٌّ منا إلى جاره الماثل بجانبه ويُسائل نفسه: هل أنت من سيخوننا في النهاية؟ هل أنت من يهتف لمصر أمامنا ويهتف من ورائنا لغيرها؟
هنالك، في الميدان، وحيث الهتاف متعالٍ والرصاص يصطك بالرؤوس والقلوب تبلغ الحناجر، سينهال الناس ضربًا على كل من يعتلي منصة، كل من يرتفع صوته عن الجموع وكل من يتقدّم خطوةً عن الآخرين حتى وإن كان ليصلي بهم. ذاك لأننا قد شبِعنا صفعاتٍ متتالية من الرموز التي تبيّن أنها لم تكن يومًا رموزًا. ومن يدري؟ فلربما من تقدّم اليوم ليصلي بنا هو نفسه من سيكفّرنا غدًا ويعطي مباركته لحرقنا أجمعين. ربما من اعتلى المنصة وهتفنا وراءه اليوم هو نفسه من سيقسم غدًا أن لولاه وجماعته لما نجحت تلك الثورة ولكان الله وحده الأعلم بمصيرها ومصير أولئك البؤساء. لن أذكر لك أمثلة وأسماء، فأنت تعلمها جيدًا، كما أعلمها أنا أيضًا، وأغلب الظن أن كلينا يعلم أيضًا أنها لا يمكن أن تُحصى.
لنتفق أن تبَعات أربعة أعوام من الأمل الكاذب والدماء المُتناثرة والرموز الزائفة، ليست أبدًا بالقليل. هي تلبث بأثرها العظيم داخل كل منا، حتى وإن لم نرَه. أخشى ما أخشاه ألّا تظهر تلك الآثار إلا في ساحات المعركة، حيث الأجواء الخانقة والأنفاس اللاهثة والظروف الضاغطة، فينقلب كل منا على أخيه، أو يفرُّ هاربًا لأنه اكتشف فجأة أن تلك الأرض الظالمة لا تستحق، أو يبكي متوسلًا لقناصه أن يصوّب عليه ويريحه من ذلك كله.
إن كانت تلك السنوات البائدة قد نجحت في شيء فهي نجحت في أن جعلتنا ندرك حقيقة لفظة “وطن”؛ هو ليس ما يسلبنا كل شيء دون مقابل، هو ليس ما يلتهم أحباءنا وأصدقاءنا وأهلينا يومًا بعد يوم، هو ليس ما تشيب له رؤوس الشباب وتُسجن به أمنيات الأطفال ويّذبح بداخله كل جميل. لا، ليس هذا وطنًا أبدًا.. “ألم تكُن أرضُ الله واسعةً فتهاجروا فيها”؟ بلى يا رب، بلى!
أرضك واسعة لكننا نحن من يتشبّث بالبقعة الظالمة رغم كل شيء. وكيف لنا أن ننسحب يا رب وقد بُذِل لأجلها ما بُذِل؟ وكيف إن نحن قابلنا في الآخرة مينا وعلاء وشيخنا عماد وسألونا عمّا رحلوا وتركوه بين أيدينا؟ وبأي وجه سننظر لمرآتنا في كل صباح يا رب؟ ونحن نعلم أننا تركنا وراءنا مظاليمَ وعَجَزة وثَكالى تضيق بهم الأرجاء؟ إنّا قد بُلينا بلعنة تلك الأرض الظالمة، فلا نحن نفر من عتمتها، ولا نحن بِتنا نمتلك الطاقة الكافية لزحزحتها ولو مترًا واحدًا.
حسنًا، عرضتُ أمامك يا عزيزي الأمرَ كله، بنصفه الفارغ ونصفه الممتلئ وبؤسه وأمله، فإن كنتَ من المتفائلين الذين يرفضون ذلك الكلام برمته ويديرون لي السباب الآن، فهنيئًا لك، هنيئًا لكونك من القِلة المضيئة في تلك العتمة البائسة. وإن كنت من التعساء مثلي، الذي زادتهم تلك الكلمات بؤسًا فوق بؤسهم، فأرجوك سامحني، لكن ما الحيلة ونحن إن لم نُفرغ دواخلنا بالكتابة، مِتنا اختناقًا بنشيجها؟
خالص أمنياتي لمن ما زالوا يحلمون، من ما زالوا يعلمون أنهم قادرون على تغيير شيء، أي شيء. من ما زالوا يمتلكون الطاقة ومن يتجدّد أملهم رغم الظلال الكالحة. سأدعو لكم من قلبي في كل صلاة، علّي بدعائي هذا أستطيع النظر للمرآةِ في كل صباح.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست