ثانيهم: يعقوب باشا أو الطبيب يعقوب “Maestro Lacopo”.
“لقد مات النسر الكبير”
هذا كان نص الرسالة التي أرسلت إلى البندقية “فينسيا” ضمن البريد السياسي المرسل من قنصليتها في إسطنبول بعد ستة عشر يوما على وفاة السلطان محمد خان الثاني أو محمد “الفاتح”.
كان محمد الفاتح قد عبر البوسفور غربًا إلى أسكدار ليدشن حملة جديدة على أوروبا والذي لم يكن يعلن عن الوجهة تحديدا كعادته منذ تولي مقاليد الحكم – للمرة الثانية – ولكنه مات فجأه بعد أن شعر ببعض التوعك قبلها ببضعة أيام وهو الذي كان يضرب به المثل في قوة البنية وتمام الصحة.
وفي ظل عدم وجود أوبئة في تلك الفترة، وحتى لو وجد هذا الوباء فأول من يعالج منه هو رأس الإمبراطورية الأكبر والأكثر اتساعا في تلك الفترة أو كان سيعلن عن أن السلطان يعاني من مرض أو وباء يصعب الشفاء منه.
إذًا فلا ثمة وباء أو مرض معين فالوفاة بالتالي لم تكن طبيعية.
إذًا ماذا حدث؟
المعلومات شحيحة وقليلة بل ومكررة في هذه النقطة بالتحديد في كل المصادر تقريبًا.
فالسلطان محمد الفاتح مات مسمومًا، وقد استبعدنا أن يكون قد مات بمرض يجهز عليه في بضعة أيام، و إلا فما هو هذا المرض المجهول؟! أو أن يكون قد أجهز عليه بإحدى الأسلحة لأن الأمر كان سيفتضح أوقد تحدث مقاومته من السلطان قوي البنية.
يبقى السم الذي من أعراضه أوجاع البطن كما اتفقت المصادرالعربية على لحظات محمد الفاتح الأخيرة، وسنحاول البناء على هذا الاستنتاج.
إذًا من قتله ولحساب من؟
ابحث عن يعقوب.
يعقوب الطبيب اليهودي المولد، جاء من البندقية “فينسيا” في شمال إيطاليا إلى الأراضي العثمانية، ذاعت شهرته سريعًا في إسطنبول لحذاقته ونجابته (لاحظ ذلك) فقد برع في علاج أغلب الأمراض التي واجهته وقتها.
بعد أن طبقت شهرته الآفاق وأشهر إسلامه (ليس لدينا علم هل أسلم قبل شهرته أم بعدها)، اتخذه الفاتح طبيبًا خاصًا له وأنعم عليه بالباشوية.
حتى هنا يوجد شبه اتفاق في المعلومات عن “يعقوب باشا”.
فور إعلان “الفاتح” عزمه على الخروج في إحدى حملاته، شعر ببعض التوعك ولما عبر البسفور غربًا وفي مدينة إسكدار تحديدًا لفظ أنفاسه الأخيرة.
فمن يا ترى يكون له المصلحة في التخلص منه مع مراعاة التوقيت والكيفية؟
هل هو ابنه بايزيد كما ذهبت بعض المصادر والكتابات؟ تفكرت قليلا في هذا ولكن إن كان هو فلماذا لم يتخلص منه في وقت إقامته في الأراضي العثمانية وماهي المستجدات التي طرأت لتجعله يتسرع وبقتل أبيه قبل خروجه لحملة جديدة.
التوقيت والمصلحة ينفيان كل التهمة عن بايزيد.
فإذا افترضنا أن بايزيد يتحين الفرصة لقتل أبيه فهل من مصلحة الابن قتل أبيه الذي خرج ليوسع من رقعة ملك سيؤول إليه كوريث شرعي.
مصلحته أن ينتظر الحملة أينما كان مكانها فإذا أصابت تضاف لملك سيرثه بعد أبيه، وإذا خابت تحسب على أبيه.
إذًا نذهب للمستفيد المباشر الحقيقي.
نعود إلى يعقوب.
هو الآن في المكان المناسب، قريب من السلطان الذي في آخر حملاته وصل لـ “أوترانت” جنوب إيطاليا وامتلكها فالبندقية أو روما أو نابولي هم وجهته المقبلة كما يؤكد بعض المؤرخين خصوصًا أن هناك أنباء عن تجهيز بابا روما نفسه للفرار حال وصول القوات العثمانية فضلًا عن انتشار أخبار عن تفكير بعض الجنود في روما وما حولها في الاستعداد للانضمام للجيش العثماني فور تحركه لروما – هذا بحسب ما جاء في كتاب الدعوة للإسلام للسير توماس أرنولد – بل أن هناك بعض الجنود هربوا وانضموا بالفعل للجيش التركي بحسب المصدر السابق.
فالمستفيد الأول هي إما روما أو البندقية أو نابولي.
دعني أذكرك بأن يعقوب جاء من البندقية وأن الاتصال به منها أو غيرها من المدن الإيطالية لن يكون صعبًا.
وإن كنت أستبعد أن يكون قد رتب للوصول للبلاط العثماني ومن ثم اغتيال السلطان، ولكني أميل إلى أن الظروف ساعدته للوصول، فاستغلها البنادقة في مراسلته وعرضوا عليه ما يقارب 17 مليون دولار بحساب النقد في هذه الايام.
أما بخصوص ما جاء في المصادر عن أنه كان يعطي للسلطان محمد الفاتح جرعات قليلة من السم بشكل مستمر فأجدني رافضا له لسببين:
الأول: التعرض للخطر المستمر من إمكانية اكتشاف هذا الأمر فهو في رأيي مجرد مرتشٍ سنحت له الظروف للصعود وليس صاحب قضية ليثابر ويعرض نفسه للخطر.
الثاني: أن تناول كميات معينة بشكل ثابت من السم يعطي للجسد مناعة قد تقيه خطر الكمية الكبيرة منه – كما رأينا في قصة راسبوتين وكيف نجا من سم وضعه له أحد خصومه لاعتياده تناول سم بكميات قليلة ولكن بشكل دوري، وإن كان الموضوع يحتاج لرأي علمي في هذه النقطة فما قد يتوافق مع راسبوتين قد لا يتفق مع الفاتح.
إذًا:
– فالوقت مناسب ليعقوب وهو خروج محمد الفاتح وانتشار أخبار بأن حملته على إيطاليا بشكل عام، وسهولة الاتصال بينه وبين مدينته السابقة البندقية أو حتى روما.
– طريقة القتل هي السم فهو القاتل والطبيب في نفس الوقت، فإذا وضع له السم سيستعينون به هو نفسه لإنقاذه بالترياق.
فلما استعانوا به بالفعل وقف الطبيب – النابغ – لا يحرك ساكنا وهو يشاهد السلطان محمد الفاتح يتلوى من الألم، فالأمور إذن توضح نفسها.
ظلت أجراس الكنائس في المدن الإيطالية بشكل خاص وأوروبا بشكل عام تدق لمدة ثلاثة أيام ابتهاجا بوفاة الفاتح الذي لم يكن يعجزه فتح روما فقد فتح أكثر مدن العالم تحصينًا في ذلك التاريخ .
فهو محمد “فاتح القسطنطينية”.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست