ومصادفةً، عاش بعض الرّواةِ وقالوا:
لو انتصر الآخرونَ على الآخرين؛
لكان لتاريخنا البشريّ عناوينُ أخرى!
لأن الخوف الأكبر لديّ، وربما لدى أغلب البشر، هو أن تتحوّل الذكريات إلى «ذكريات». ألا نظلَّ أحياءَ فيها. أو بطريقةٍ أخرى: أن تحيا هي فينا بعد أن تذهب. لكلّ هذا ربما أتعامل مع عمري الشخصيّ على أنِّي في سنتي العشرين التي عايشتُ فيها الثورة، وإذا تجاوزتُ بعضَ الشيء عن هذه الـ«عشرين»، فهي بالضرورة لا تزيد عن اثنتين وعشرين عامًا. هكذا تقاس الأمورُ في ذهني. خسرنا الثورة تمامًا، وخسرنا حياتنا الشخصيّة، وبقيت لنا «الذكريات» التي نخافُ منها. ذكرياتُ الخوف والقلق، الكرّ والفرّ، الخسارة المليئة بالنصر، وفوق كل هذا وقبله «الحلم».
مضت أحداث وسنوات كثيرة، ولا تمضي ذكريات الثورة. دومًا أقيس حياتي بمقياس تواريخها، بعد سنتين من الثورة حدث كذا، بعد ستة أشهر حدث كذا، في حياتي محطّاتها كالفنارات ترشدني. تأريخي الخاص الذي أخاف ذكرياته أيضًا، أكثر من أيّ شيءٍ آخر في هذه الحياة.
المشهد الأوّل
كنتُ وحيدًا بما يكفي لأنزل الميدان، وحيدًا بما يكفي لأواجه هذا اليوم المخيف. أصواتُ الحديد على السور المحيط بالميدان في حركةٍ رتيبة محفوظة، الإيابات المسرعة التي تحملُ الجرحى، والجرحى أنفسهم. أمسيتُ لا أعرفُ من حياتي، إلا هذه اللحظة، هذا الوقت، ولا أعلم هل سأخرجُ حيًّا أم سأخرجُ ميّتًا، الجرحى حولي، والمعركة بدأت منذُ ساعتين. تلفعتُ بالكوفيّة و(الآيس كاب)، و(جاكيت) مبطّن، عبّأت جيوبي بالأحجار، ودخلتُ في المعركة، في الخوف المزلزل، والدم الذي لا ينتهي.
الكثير من الأحجار تلقّيتها في صدري، في رأسي المحميّ بـ(آيس كاب) لبنيّ، والكثير من الخوف خبأته في قلبي.
بعادتي لا أحبّ المفاجآت، ربما حتّى أنني لا أحبّ المفاجآت الجميلة منها، أخافُ من مشاعري، كما أخافُ من ذكرياتي. لهذا كنتُ لا أقدمُ إلا محاولًا ألا أصاب، في لحظةٍ فكّرت لو أنّ الموت يأتيني برصاصةٍ واحدة، ضربة واحدة من يد قنّاص من هؤلاء الذين يحيطون بالميدان فوق الأبنية العالية، لكنني أكرهُ يا الله أن أصاب إصابةً تقعدني، أكرهُ أن يسيل الدمُ على وجهي ورأسي، أو أن أفقد عيني. لهذا كنتُ بقدر اندفاعي في الدفاع عن لحظتي تلك كان قدر احتياطي بألا أصاب.
لكنّ احتياطي المذعور هذا لم ينفع من كان بجانبي في تلك اللحظة. بدأت متاريسنا تظهر، حوّلنا الميدان وما يحويه لأسلحة. البعض يكسّرون الأحجار التي في أرصفة الميدان، والشوارع المحيطة به، البعض الآخر يخوض معركةً رتيبة، بالخبط على أسوار الميدان بالحديد، لتشجيع المعتصمين وتحميسهم على دخول «المعركة». البعض الآخر كان يحمل المياة ليلحقنا بها في الصفوف الأولى، وما كان محفوظًا في الخيام من الطعام تمّ توزيعه على «المقاتلين».
بالنسبةِ لي سلاح واحد كان مخيفًا للغاية: الأطباء.
يمكنني مواجهة البلطجية بالطوب كما يفعل المئاتُ حولي، وكما يفعلُ صديقي الذي أصيب في ذلك اليوم تسع مرات في وجههِ ورأسه، ويمكنني أيضًا أن أشاهد المصابين يحملهم زملاؤهم «المقاتلون» للعيادات التي بدأت في التشكُّل لحظيًّا. لكنَّني أبدًا لم أتحمّل أن أقف في عيادةٍ من العيادات أساعد الأطباء، فالتعامل مع الدمّ يخيفني.
انفصلتُ أنا وصديقي، بحكم الكرّ والفرّ في «المعركة»، وكلّما عدتُ إلى مكانٍ هادئ لأستريح أتصل به لأطمئنّ عليه، أو يتصل هو بي لنتقابل، فنستريح، فندخل المعركة معًا فلا نفترق. وهكذا فعلنا، لكنّنا افترقنا.. بعد دقيقتين.
واجهتُ أجلي. كان حجرًا ضخمًا قادمًا باتّجاهنا، أنا وهذا الذي لا أعرفهُ جانبي. «لحظةُ الموت»، هكذا شعرتُ بها، حجرٌ طائشٌ – كالموت – أراهُ في جزءٍ من الثانية قادمًا نحو رأسي، لكن في الجزء الثاني من الثانية كان الحجر يرتطمُ برأس هذا الذي إلى جانبي، وهأنا ذا مضطرًا سأتعاملُ مع الدمّ بطريقةٍ مباشرة.
وضعتُ يدي حول خصره، ويدي الأخرى على رأسه التي غطّاها بالعلم المصري، ليكبح الدم الفائر. ويدهُ على كتفي، وركضنا إلى أوّل عيادةٍ نُصبت قريبًا من المعركة. أتذكر المشهد بتفاصيله تمامًا، المكان والوجوه التي كانت حولنا، وشكل العيادة البسيطة، والجرحى من حولنا، والجرحى الذين يحملهم أصدقاؤهم، ورفاقهم، كهذا الجريح الملتصق بي، والذي لا أعرفه.
على الأرض، كانت فتاة فقدت أعصابها تمامًا، لا تتحدّث، ولا تتحرّك. تسندُ ظهرها على سورٍ أخضر، ويدها مترهّلتان على جانبيها، تبدو كمن فقدت عزيزًا، أو أنّ صدمة المعركة أكبر من قدرتها على الاستيعاب.
قدّمت رفيقي للطبيب، كان جرحهُ عميقًا، واسعًا، وهذه العيادة لن تستطيع تخييط جرحه، وجّهونا بعدها للعيادة الرئيسة، في بداية شارع محمد محمود، قام الأطباء بتشييد عيادةٍ بسيطة، على مساحةٍ صغيرةٍ جدًا، هي مساحة المسجد (الزاوية) الصغير.
ساعدتُ رفيقي على الركض سريعًا إلى تلك العيادة، الناسُ من حولي ثلاثة أصناف: جرحى. ومساعدون في حمل الجرحى. وهؤلاء الرتباء الذين أخذوا على عاتقهم مهمة الخبط على السور لتحميس المعتصمين للدخول للمعركة.
ربما شعر رفيقي بخوفي يتسرّبُ إليهِ هادئًا وجلًا كالسمّ، لم أعرف وجههُ أبدًا، كان الدمُ يغطّيه، وفوق هذا كان العلم على رأسه ليكبح تدفق الدم، لكنّه أحسّ بي فقال «متخافش.. حنكسبهم إن شاء الله».. فقلتُ بصوتٍ مرتبك «إن شاء الله».
كان الموقف ملحميًّا حين وصلنا، فالعيادة/المسجد، كانت مستهدفة من قناصة على بنايةٍ عالية، وصلنا بصعوبةٍ بالغة إلى العيادة، منعوني من الدخول معه، دخل هو، وترك معي علمه المخضّبَ بالدمّ. انتظرت، ولم أعلم وأنا أنتظر أنّ هذا الشارع سيحمّلني من الذكريات الأخرى ما ينوءُ به عاتقي في أحداث محمد محمود بعد شهورٍ ليست بعيدة.
الخوف، والصراخ، والدم. دخل شابان، أتذكّر ملامحهما، أحدهما فقد عينًا، وصديقه يحمله ويبكي ويصرخ، حاولوا تهدئته بعدما أسرعوا إلى صديقه يسعفوه، كان ينتحب «ياااارب.. حرااام.. ولاد الكلب!»، تمنّيتُ لو أنّني عرفتهما في ظروفٍ أفضل، كأن يكونا صديقين لي، يحتفلان معي بعيد ميلادي السابع والعشرين، أو أن أعرفهما كزملاء عمل، أو أيّّ شيءٍ آخر، غير هذا الانتحاب الذي لم يزدني إلا خوفًا وقلقًا، ومشاعر أخرى صعبٌ عليّ شرحها.
خرج «جريحي» أخيرًا، لكنّني أيضًا لم أستبن ملامحه، فقد كانت رأسه وجبهته ملفوفة بـ(بلاستر) أبيض بعد تخييط الجرح، لكنّ ما أذكره وأشعر به تمامًا هو ذلك الحضن الذي تلقاني به. كنتُ أنتظره ممسكًا علمه الأحمر بدمه، خرج، هو من عرفني، فأقبل سريعًا، واحتضنني أقوى حضنٍ حضنني إياهُ شخصٌ في العالم، حضنُ غرباءُ تعرّفا لأوَّل مرة وآخر مرة في معركةٍ خاضاها معًا، وأحدهما مصاب والثاني ساعده في تطبيب جرحه. وضع يدهُ على كتفي وخاطبني: «يلا بينا حنكسبهم إن شاء الله.. يلا منسبش اخواتنا ع الجبهة».
ركضنا معًا من جديد، يملأنا فورانٌ كفوران دمه الذي فقده، ركضنا بطول شارع الميدان، وصلنا الجبهة، دخلنا المعركة من جديد، افترقنا، ولم أره مرةً أخرى أبدًا.
المشهد الثاني
امتلأت مثانتي عن آخرها، وبالرغم من عدم قدرتي على المشي أو الركض، إلا أنّ الشرطة كانت تلعبُ معي (معنا) لعبة، فإذا كنت متعبًا طوال اليوم، ولم تستطع قضاء حاجتك، وكدت تنفجر، وقدميك لا تحملانك، فسنساعدك على النهوض والركض بالرصاص والخرطوش.
فقدتُ صديقي «إسلام» منتصف يوم «جمعة الغضب» على كورنيش النيل، كانت قوات الأمن المركزي قد فرّقتنا بالغاز المسيل للدموع والخرطوش، ونحنُ نهرب سقطت أمامي قنبلة غاز، شعرتُ بالموت. قنبلة كاملة ليس بيني وبينها سوى مترين، وأنا في اتجاهها أركض، كنتُ متلفّعًا، ومجهزًا نفسي بالبصل والخلّ للإفلات من تأثير الغاز، لكن ما العمل أمام قنبلة اتجاهها أمامي؟
صرخت مناديًا صديقي وأنا أترنَّح وأسعل، كان قد أصابه أيضًا ما أصابني، اختنقتُ تمامًا وشعرت أنّ روحي تتآكل، وحنجرتي تختنقُ من الغاز الذي شعرتُ به كجرثومٍ ينتشر داخلي. أسعفني بعض الثوّار واستطعنا الركض بعد الإسعاف. ركضنا وسعنا، حتَّى خرجنا من شارعٍ آخر، كنّا ما تبقّى من المظاهرة التي انقسمت بعدما خرجت من جامع الفتح برمسيس، ولا نعلم ماذا حدث مع النصف الآخر من المظاهرة.
انتهى الأمر بي وحيدًا، بعدما افترقتُ وصديقي ونحنُ نركض، شبكات الاتصال مغلقة، والطرقُ مغلقة، وأنا وحدي، لا أعلمُ ما مصيري، ولا أعرفُ أحدًا من تلك الجموع الغفيرة التي معي، ولا أعرفُ المنطقة التي نحنُ فيها، ولا أعرفُ فوق هذا كله: هل سأموت اليوم؟ وكيف سأموت؟! سمعتُ البعض يتحدث عن انطلاقةٍ أخرى لميدان التحرير، عبر الدخول من الشوارع الفرعية، تبعتهم. وصلتنا أخبار لا نعرفُ مصدرها أنّ «إخوتنا» وصلوا ميدان التحرير، وأننا سننتصر في هذه «المعركة».
كان المشهدُ عارمًا، موتًا محققًا. شعرتُ بأنّنا أحياءُ جئنا بعدما مات الجميع. الشوارعُ صامتة، والمساءُ ساكن إلا من صوت رصاص أتٍ من بعيد. ليس هناك بشر، ولا دكاكين مفتوحة، فقط عرباتُ الشرطة محترقة، صناديق القمامة يتصاعدُ منها الدّخان، الجحافل تسيرُ وأنا معها، من رمسيس مرةً أخرى إلى ميدان التحرير، في الشارع بطولِه عرباتُ الشرطة محروقة تمامًا، يتصاعدُ منها الدخان، بقايا دروع الأمن المركزي، والجموع تهتف «الشعب يريد إسقاط النظام».
وسيكون من الصعب جدًا أن أصف شعوري مع هذا الهتاف في هذا المشهد تحديدًا.
وصلنا الميدان، كانت دبابات الجيش على وشك الوصول، انتظرتُ في شارع شامبليون؛ أريح جسدي، وأريح هذا التعب المُمضّ الذي يملأ مثانتي. على الأرض بقايا رصاص وخرطوش، وبقايا قنابل الغاز. تخيّرتُ بقايا قنبلة، ورصاصتي خرطوش، واحتفظتُ بهما في حقيبة ظهري التي حملت من الصباح البصل والخلّ ومستلزمات الكرّ والفرّ، ولا زلتُ أحتفظُ بهما حتى الآن!
هزّت سكينتنا المتوترة الخائفة طلقاتٌ سمعناها، ركضنا ناحية الصوت، «إخواتنا» من جديد محصورون في شارع القصر العيني عند مجلس الشعب، وجاءتنا الأنباء: الثوار محاصرون عند مجلس الشعب، حاصرتهم الشرطة تمامًا، وأمطرتهم بالخرطوش والرصاص والغاز. كلّما اقتربنا من الشارع واجهتنا رائحة الغاز التي تثير الأعصاب والحنجرة، وسمعنا صوتًا مدويًا لإطلاق الرصاص. أرضيّة الشارع صارت سوداء على سوادها، بقايا أتربة قنابل الغاز، وبقايا دم في كلّ مكان. انتظرنا في الميدان، حاول البعض الوصول لرفاقنا الثوار عند مجلس الشعب، لكنها كانت محاولة فاشلة.
ظللتُ متلفعًا بملابسي وكوفيتي، والآيس كاب، أواجهُ وحدي برد يناير القارس، ووحدتي الشاملة في مواجهة الموتُ والدمُ والرصاص. ارتحتُ قليلًا على أحد الأرصفة، احتفل الثوار بدبابات الجيش، تنحيتُ جانبًا، لا أعرفُ هل نقصتني الرغبةُ في ذلك، أم أنّ كوني وحيدًا في ذلك الليل الملحميّ قد منعني من مشاركة هذه اللحظات مع الجميع؟ كم هو قاتمٌ أن تواجه كلّ هذا دون رفقة!
«قوّاتُ الجيش أنقذت إخوتنا عند مجلس الشعب»، هذا ما سمعته آتيًا من بعيد، ركضنا ناحيتهم، كان منظرًا سينمائيًّا هذا الذي عشته. جاءت سيارات الجيش، ملأت الميدان، ووزعت علينا «وجبة المقاتل» الخاصة بجنود الجيش، هرعت الجموع ناحيتهم، تلقّوا الوجبات، تقاسموها، ولوحدتي، وربما لخجلي لم أشارك في الأمر. شعرتُ أنني سأموتُ من الجوع لو لو أمت من الرصاص، تجرأتُ قليلًا واعتليتُ إحدى هذه السيارات، طلبتُ من الجنديّ أن يعطيني وجبة، فكانت آخر وجبةٍ يعطيها لشخصٍ آخر أمامي، ناداني هذا «الرفيق»، وأعطاني جزءًا بسيطًا من الوجبة، الجميع يتقاسم ما يصله، حتى العلبة الصغيرة جدًا التي أخذتها منه تقاسمتها مع أحد «الرفاق» الذين لا أعرفهم.
نزل المطر، شجيًا، خفيفًا، يربتُ على قلوبنا ويمسحُ آثار الدمّ والموت، والسواد الذي كسا شوارع الميدان، سرتُ بطيئًا في الميدان، أشاهد عظيم ما أنجزنا، رجلٌ أربعينيّ، بسيط الهيئة متلفّع بعلم مصر، ترك الاحتفال والهتاف والطعام، واستغرق مع هذا المطر الطفيف، وخرّ ساجدًا لله.
أكثر سؤالٍ واجهني هذا اليوم: «ماذا بعد؟!» ماذا بعد نزولي المظاهرات؟ ماذا بعد الكرّ والفر والغاز والخرطوش، ماذا لو أصبت؟ ماذا لو قتلت؟ ماذا لو انتصرنا؟ ما الذي سنفعلهُ بعد الملحمة؟ هذا هو السؤال الذي لم أستطع إجابته أبدًا في ذلك اليوم. سرتُ قليلًا متجوّلًا في الميدان، وملتقطًا بعض الصور التي لم تكن احترافيةً بحال وجودتها سيئة للغاية، أشاهد الفرح في عيون الناس، وأتأمّل الانتصار الذي شاركتُ فيها، وأتساءل بيني وبين نفسي: أين سأفرغ مثانتي وأقضي حاجتي!
أصبحَ المساءُ نديًّا، بالرغم من الشهداء والقتلى والمصابين في هذه البقعة من الأرض، لكنّ المساء أصبح رائقًا، باردًا، وساكنًا، بالرغم من الضوضاء حولي. أخذتُ قدمي وتمشّينا معًا، «وحيدين مهنتنا الكبرياء»، كما يقول الشاعر، قطعت الميدان والشوارع حوله، تأملت الوجوه، والسماء الملبدة ببقايا الغاز والأرواح الصاعدة، وأكملتُ سيري خارج الميدان باحثًا عن مكانٍ أستريحُ فيه.
بعد ساعةٍ تقريبًا، وصلتُ لزاويةٍ صغيرة في الأطراف، دخلتها قبيل الفجر، في وقت السّحَر، كان قائم المسجد وحيدًا، واضحٌ عليه البرد، استقبلني ربما على غيرِ انتظارٍ لأحد، دخلتُ وقضيت حاجتي ناعسًا، توضّأت بالمياه الباردة في هذا الصقيع، ودخلتُ المصلّى ذاهلًا عمّا حولي، أذّن الفجر فصليت، وقفلتُ عائدًا إلى بيتي الذي ظنّ الجميعُ فيه أنني استشهدت، حتّى أمّي، الشخص الوحيد الذي أخبرته أنني ماضٍ إلى الميدان، وأنّني «قد أموتُ غدًا في الثورة!».
المشهد الثالث
كنتُ في الصفّ الأول على غير إرادةٍ منِّي، وصلتنا استغاثاتٌ قادمة من الميدان، ونحنُ في جبهة المعركة عند المتحف المصري، بعضنا ركض، كنتُ من ضمنهم، أنا ورفيقي في ذلك اليوم: «ياسر».
ركضنا ناحية مدخل قصر النيل، وجدنا دبابات الجيش – كعادتها – مغلقةً على جنودها، ثابتةٌ في مكانها لا تتحرّك، البلطجيّة قادمون خلف الدبابات الثابتة، أقمنا حائط سدٍّ بشريّ، كنتُ – لسوءِ وحسن حظِّي معًا – في أول صفٍ منه. شبكنا أيدينا معًا، بدأت المناوشات اللفظية، كان من الواضح أنّ هؤلاء البلطجية لم يكونوا مدعومين كهؤلاء الذين فاجأونا من ناحية المتحف المصري.
حاول أحد الشيوخ أن يبعد الفريقين، اعتلى إحدى الدبابات وأذّنَ بصوتٍ عالٍ، وظلّ يحثّ الفريق الآخر على الرجوع عن الميدان، ومن الناحية الأخرى يردُّون عليه أنّ الميدان لنا جميعًا كمصريين، وليس للثوار فقط. كان الموقفُ مخيفًا، فما كابدتهُ على جبهة المتحف المصري أخافني أن أكون في معركةٍ مكشوفة مع البلطجية دون سواتر حديدية كالتي في الجبهة الرئيسة.
ظلت المناوشات، ومحاولات الفريق الآخر لاختراقنا بطرقٍ ملتويةٍ أحيانًا وعنيفةٍ أحيانًا، وكما تنشأ الحروبُ الكبرى في هذا العالم المجنون، وجدتُ فجأةً أحجارًا من هنا وهناك، في معركةٍ صفرية بلا أية سواتر أو حواجز حديدية. لا أذكرُ بالضبط سبب هذا الاندفاع المفاجئ بعدما أظهر الجميع نياتهم الطيبة تجاه الجميع. بدأت الدماء على هذه الجبهة الصغيرة أيضًا، ونالني من الضرب جانبٌ بالطبع.
لكنّ ما أحكيهِ سابقًا، ماهو إلا تمهيدٌ للمشهد التالي، الذي لا يغيبُ عنِّي كلما تذكرتُ يناير وذكرياته.
في إحدى موجات التقهقر أثناء هجومهم علينا، تلقيتُ حجرًا في وجهي، كانت إصابةً طفيفة، في طريقي للعودة وقعت عيني على وجهٍ مألوف، شخص أعرفه، لكنه ليس صديقي، ولا حتّى من الشخصيات التي توقّعت وجودها في هذه المعركة: «عمّو صدّيق» والد صديقي، وقعت عيني عليه مصابًا في رأسه، وهو يحاول التقهقر ممسكًا جرحه، هرعت إليه خائفًا وصائحًا «عمو صديق.. عمو صديق»، أشاح بيده لي صارخًا: «متخافش عليّ.. إرجع ع الجبهة.. متسيبهمش يدخلوا». تركته من فوري ودخلت الجبهة من جديد.
هذا الرّجل، كان في الخمسين، وهو يحمل الأحجار، ويركض بقدمه المريضة جرّاء حادثةٍ منذ ثلاث سنوات، وها هو مصابٌ أمامي.
مرّت سبع سنوات على هذا الزمان، وأصبح مطاردًا، وسجن ولداه مدّة، وهاجر من هذا الوطن الذي دافع عنه بيدين خاليتين، إلا من أحجارٍ صغيرة، ووهبه دمه الذي سال من رأسهِ أمامي!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست