البنا والبرلمان
بعد توليه الوزارة بثلاثة أيام حلّ النحاس مجلس النواب، فقرر الإخوان دخول المعركة الانتخابية التي قاطعتها تقريبًا كل الأحزاب الأخرى بـ 17 مرشحًا انتهازًا للفرصة «كما سيفعلون مستقبلًا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي سبقت الثورة المصرية في نوفمبر 2010 وأجمعت القوي الوطنية على مقاطعتها»، وعلى الرغم من تأكيدات البنا على أن الإخوان ليسوا حزبًا سياسيًا ولا طامعين في السلطة بل هم دعاة وفقط، وبالرغم من اعتراض بعض الإخوان على دخول البنا معترك السياسة بشكل رسمي بهدف قصر نشاط الجماعة على الدعوة فقط، لكن طموح البنا فوق أي معارضة، فقد برر البنا تبني الإخوان للعمل السياسي بحجة تنافر الأحزاب، مصرحًا بـ «أنه في حالة تخلف قادة الشعب عن تولي الأمور، فإنه سيتقدم ليقود الشعب»! وكان قرار البنا بدخول البرلمان هو رد فعل لعودة الوفد عدو الجماعة إلى صدارة المشهد السياسي وتولى النحاس رئاسة الحكومة، وكاستغلال لحالة السخط التي أصابت النخبة السياسية والشعب من حزب الوفد بعد قبول النحاس تولي الوزارة بالقوة كنتيجة لإجبار «لامبسون» لـفاروق بتولي النحاس رئاسة الوزارة، ولإثبات الوجود وجس النبض واختبار قوة وتأثير وشعبية الجماعة في الشارع.
قال البنا وهو يرشح نفسه عن دائرة الإسماعيلية: «إن الترشيح يتم في ظل الإسلام وتحت راية القرآن»، وتركزت دعاية البنا على ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية، وجاء في مقال نشرته إحدى الصحف أن «البنا سيكون زعيم المعارضة في البرلمان»، واختار البنا بلدة الإسماعيلية الصغيرة كي يترشح على مقعدها، كونها المكان الذي شهد ميلاد الجماعة والذي بدأ فيها دعوته، وبسبب شعبيته القوية بالطبع هناك، لكن حزب الوفد الذي يقف ضد خلط الدين بالسياسة بالمرصاد، لم يعجبه الأسلوب الذي تمارس به الجماعة دعايتها، فأرسل النحاس يطلب لقاء البنا شخصيًا ليناقشه في مسألة ترشيحه للبرلمان بفندق مينا هاوس وليقنعه بسحب الترشيح، وخيره النحاس بين العمل في الدعوة أو العمل في السياسة، وعليه أن يختار ما بين الاثنين لا أن يجمع بينهم، فانتهز البنا الفرصة للمساومة والخروج بأكبر عدد من المكاسب نظير عدوله عن الترشيح، وكان البنا قد فرضت عليه قيود من الحكومة السابقة، كعدم مغادرته القاهرة مثلاً، إلا بعد الحصول على إذن رسمي من وزارة الداخلية اتقاء لما يمكن أن يفعله إن غاب عن أعينهم، فوعده النحاس بتذليل أية عقبات تقف أمام الجماعة بشرط أن يوجهوا نشاطهم في سبيل الدعوة فقط، وكان هذا مرضيًا للبنا مؤقتًا، فتذليل العقبات أمامهم كفيلة بمضاعفة نشاطهم الذي حددته الحكومة السابقة، وكان للبنا طلب آخر هو أن تعده الحكومة باتخاذ الإجراءات اللازمة لحظر المشروبات الكحولية والدعارة فوافق النحاس، وأمر بعد فترة وجيزة بفرض قيود على بيع المشروبات الكحولية في أوقات معينة يوميًا وخلال شهر رمضان وفي الأعياد الدينية، وبالطبع كان هذا أقصى ما يتمناه البنا، وفي المقابل أرسل البنا إلى النحاس رسالة أعلن فيها ولاء المرشد العام والجماعة للحكومة والتزامه بمعاهدة 1936، لكن وكالمتوقع لم يف البنا ولا الإخوان بالتزامهم ولم يبتعدوا عن السياسة كما وعد البنا، خصوصًا أنه بعد اتفاق النحاس وحسن البنا على تنازل الأخير عن ترشيح نفسه، أوقف فاروق المعونات المالية التي كان يمن بها على الجماعة، ولم يعد هناك أي تفاهم محدد بين الطرفين، لاستشعار الملك أن البنا لم يعد يلعب لحسابه ضد الوفد بل لحساب مصلحة الجماعة أينما وجدت تلك المصلحة، فتدارك البنا الأمر سريعًا، وصدرت صحيفة الإخوان في 29 أغسطس 1942 يتصدر غلافها صورة فاروق وفي يده المسبحة، ثم ذهب وفد من الجماعة برئاسة حسن البنا إلى قصر عابدين لرفع هذا العدد «إلى صاحب الجلالة الملك المحبوب أيده الله»، ومرة أخرى تتدخل السفارة البريطانية مرة أخرى ضد الإخوان، فحظرت الحكومة الوفدية الاجتماعات العامة للجماعة في سبتمبر 1942، وهددت الإخوان باتخاذ المزيد من الإجراءات الانتقامية نحوهم، وتلقى المرشد العام تحذيرًا قويًا من القيام بأية أنشطة معادية لبريطانيا أو الحكومة حتى لا تتعرض قيادات الجماعة للاعتقال، واستدعى فؤاد سراج الدين وزير الداخلية المرشد العام وقال له: «يا شيخ حسن عايز أعرف أنتم جماعة دينية أو حرب سياسي؟ احنا معندناش مانع أبدًا أنكم تكونوا حزب سياسي، أعلنوا على الملأ أنكم يتشغلوا بالسياسة وأنكم كونتم حزب سياسي ولا تتستروا بستار الدين ولا تتخفوا في زي الدين أما أن تتستروا تحت شعار الدين «الله أكبر ولله الحمد» وفي نفس الوقت تقوموا بالعمل السياسي وتباشروا السياسة الحزبية فهذا غير معقول لأنه يخل بمبادئ تكافؤ الفرص بينكم وبين الأحزاب السياسية، أنا كرجل سياسي حزبي لا أستطيع أن أهاجم جماعة دينية تنادى بشعارات دينية سامية وإلا سأكون محل استنكار من الرأي العام».
حادثة القصاصين
في عصر يوم 15 نوفمبر 1943 كان فاروق يقود السيارة التي أهداها له الزعيم النازي أدولف هتلر بسرعة كبيرة بجوار ترعة الإسماعيلية عائدًا من رحلة صيد وفوجئ بمقطورة عسكرية إنجليزية كانت قادمة من بنغازي وقد انحرفت يسارًا فجأة وسدت الطريق أمامه لكي تدخل المعسكر، فقام بالانحراف لتفادي السقوط في الترعة، واصطدمت مقدمة المقطورة بسيارته وطارت عجلاتها الأمامية، وحطمت الباب الأمامي ووقع في وسط الطريق، وكاد الحادث أن يؤدي بحياته، وتم نقله إلى داخل المعسكر لإسعافه، ثم حملته السيارة الملكية إلى المستشفى العسكري القريب في القصاصين، وقد أحاط جنود مصريون بعد الحادث بالمستشفى من تلقاء أنفسهم، وتم إبلاغ القصر الملكي وحضر الجراح علي باشا إبراهيم بالطائرة من القاهرة لإجراء العملية له، وبعد انتشار الخبر في أرجاء مصر زحفت الجماهير بالألوف وأحاطت بمستشفى القصاصين طوال إقامته فيه بعد الجراحة التي ظل يعانى من آثارها طوال حياته وسببت له السمنة المفرطة بعد ذلك، وسرت شائعات بأن الحادث كان مدبرًا للتخلص منه بسبب تفاقم الخلاف الحاد بينه وبين السفير البريطاني السير «مايلز لامبسون» بعد حادث 4 فبراير، ورأس حسن البنا وفدًا من المركز العام وسافر به إلى القصاصين عقب الحادث، وانتقلت وفود من شعب الأقاليم وفرق الجوالة إلى المستشفى، ووصفتهم صحيفة الإخوان بأنهم «يحدوهم جميعًا شعورهم نحو مليك البلاد حفظه الله وعجل له بالعافية وسرعة الشفاء».
واستمرت صحف الإخوان في نفاق فاروق، فأشادت به عندما ترك الاحتفال بعيد ميلاده وذهب إلى الصعيد لـ«يواسي المنكوبين منه ويزور الفقراء المعدمين ويصلهم بعطفه وبره»، وتستمر احتفالات الجوالة بالمناسبات الملكية، فتشارك في الاحتفالات بعودة الملك للقاهرة، فحين تقرر عودته للقاهرة، أصدر مكتب الإرشاد العام أمره إلى جميع الفروع في الأقاليم ليصطف الأعضاء بأعلامهم وجوالتهم على المحطات التي يقف فيها القطار الملكي «لأداء فروض الولاء والاحتفاء بالطلعة المحبوبة»، وعندما زار الملك عبد العزيز آل سعود مصر، استعرض الإخوان جوالتهم أمام شرفة قصر الضيافة، وكان يقف إلى جوار الملك أحمد السكري الوكيل العام للإخوان، بينما اندس حسن البنا بين الجماهير يشاهد الاستعراض، وتكررت الاستعراضات في عيد ميلاد الملك أو عيد جلوسه، وتصف مجلة «النذير» الجوال بأن عليه «أن يكون مخلصًا لله وللوطن وللملك ولوالديه ولرؤسائه ومرؤوسيه»، وبهذه الصورة أثبت الإخوان ولاءهم للملك حرصًا منهم على المحافظة على الأرض التي اكتسبوها، وإيمانًا منهم بأن الحكومات متغيرة ولكن العرش ثابت، ففي 8 أكتوبر 1944 أقال فاروق حكومة النحاس الذي قد تولى الوزارة رغمًا عن أنف فاروق وتولى أحمد ماهر باشا رئيس الحزب السعدي المنشق عن حزب الوفد تشكيل الوزارة الجديدة خلفًا للنحاس، وبإقالة الوزارة الوفدية تغير الوضع، ولم يعد هناك تنازع بين الملك وحكومته، وكان على الإخوان الانعطاف كلية نحو القصر والحصول على المساندة الملكية، فانتهزت صحيفة الإخوان فرصة عيد ميلاده عام 1945 ليحمل غلافها صورته، وسطرت الجريدة بأن «عيد الملك هو عيد الشعب، وأن الحب الذي يكنه له هذا الشعب لم يمنحه لغيره من قبل»، ويشيد حسن البنا في مقاله «رحلة الحجاز» بالمقابلة بين فاروق وابن سعود، ويبعث ببرقية باسم الإخوان إلى رئيس الديوان لرفعها للملك يهنئه فيها بسلامة العودة وأنه «يعز الإسلام والعروبة بالفاروق العظيم».
يتبع الأسبوع القادم.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست