بعدما شُمع جناح الكتب الإيرانية في المعرض الدولي للكتاب بالجزائر في طبعته الأخيرة بطريقة تعسفية، تحت غطاء القدح والذم في شخوص الصحابة الكرام، ها هي تمنع من جديد بعض الكتب الفكرية المحكمة بضوابط أكاديمية ومصادر التشريع الإسلامي، والتي تقوم في مجملها على معالجة بعض القضايا العقائدية والاجتماعية، المتمثلة في رفض مبدأ القداسة، وتقديم نظرة مغايرة للدين الإسلامي الوراثي، أو كما يقال «دين الفقهاء». إن مثل هكذا تصرفات الصادرة من جهات رسمية تظهر جليًّا أن بعض صناع القرار من العقول المريضة في دول العالم الثالث تأبى إلا أن تمارس الديكتاتورية الفكرية على أفراد مجتمعاتها، لتجعل منهم قطيعًا أحاديًّا يسهل جره واستغباؤه في أي وقت وبأي طريقة.
يقول صاحب العبقريات محمود عباس العقاد في سيرته الذاتية المعنونة بـ«أنا»: «القراءة غذاء العقل وارتقاء الفكر»، إن كان الأمر كذلك، فلكل إنسان حقه في اختيار الغذاء الذي يناسب عقله، باختلاف أشكاله وتنوع أجناسه، فاستمرارية وجود الكائنات الحية، اجتماعية كانت، أم حيوانية لا تقتصر على غذاء أحادي وإلا فستزول بزوال الوقت، ولكن قبل الزوال، حتمًا ستمرض وتنقل داءها المعدي إلى من أحاطها من كائنات. هذا ما عالجته الكاتبة المصرية هاجر عبد الصمد في روايتها «حبيبي داعشي»، عندما استندت إلى ظاهرة الدواعش، كي تنبه بطريقة فنية لخطورة الفكر الأصولي الذي أصبح ينخر المجتمعات المسلمة.
وعلى الرغم من الإجماع حول ركاكة الأسلوب اللغوي، وبشاعة الصور الجمالية للرواية، الشيء الذي لا ينقص البتة من شأن الكاتبة الشابة التي تخوض أول تجربة روائية، فإن لجنة القراءة المكلفة بمتابعة فعاليات الصالون الدولي للكتاب في الجزائر قررت سحب كل نسخ هذه الرواية من المعرض، وربما قد يكون سبب المصادرة راجع للجرأة النقدية التي اعتمدتها الروائية إزاء النظرة الدونية التي تعاني منها المرأة المطلقة وسط هذه المجتمعات.
ففي المجتمعات المريضة تعد المرأة بصفة عامة، والمرأة العانس والمطلقة على وجه التحديد، جزءًا من الفضاء العام، إذ يحق لمن هب ودب استباح كينونتها، وبدلًا من أن تفطن هذه العقول الأصولية لمثل هكذا مخاطر اجتماعية، وتستعين بأقلام شبابية واعية لمعالجة هذه الآفات، فهي تتعمد تجاهل الواقع، بل تزيد من عفونته بإقصاء وشيطنة كل من يجرؤ على الخوض في مسائل كهذه.
من جهة ثانية، يمثل الاختلاف وتعدد أوجه النظر بالنسبة لهذه الفصيلة من العقول تهديدًا حقيقيًّا، إذ إن بعض الأفكار المختلفة عما هو سائد، والمواكبة لمتطلبات العصر، والتي تكون في أغلب الأحيان مبنية على حجج متينة توافق العقل والمنطق، قد تفقد هذه العقول السلطة الفكرية والاجتماعية التي تهيمن بها على بقية أفراد المجتمع، وإلا فلماذا المصادرة والقمع؟ فلا يخشى الحجارة إلا من كان بيته مبنيًّا من زجاج. هذا ما حدث مع مصادرة كل ما كتب المفكر محمد شحرور، والكاتب رشيد أيلال من معرض سيلا لهذه السنة، إذ إن الأول أراد مقاربة النصوص الدينية من زاوية جديدة بعيدة كل البعد عن التفاسير الرائجة في الأوساط الدينية مستندًا إلى آليات منهجية حديثة، ومن هذا المنطلق ألف المفكر السوري كتابه «الكتاب والقرآن- رؤية جديدة». أما الكاتب المغربي رشيد أيلال سعى للتنقيب في الموروث الديني وتنقيته من الشوائب التي علقت به على مر العصور، والتي أضحت تسيء للدين الإسلامي في عمومه، وذلك من خلال كتابه «البخاري.. نهاية أسطورة». وبغض النظر عما تحمله هذه الكتب من أفكار، قد يختلف مع بعضها ويتفق مع بعضها الآخر، فهي دون شك تحدث ثراء فكريًّا وتحرك آليات النقاش بطريقة حضارية.
إن سنة الاختلاف بما تحمل من تنوع في الفكر، واللون، والعرق، قاعدة إلهية بني عليها الكون، ومن يعارضها فهو يفرض حتمًا سنن الله في كونه، الشيء الذي يؤدي بصاحبها تلقائيًّا للاندثار والزوال، فالكون يسري بأعرافه وسننه، ولا يبالي بالجمود والتحجر، وذلك مصداقًا لقوله تعالى: «فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست