يستهويني ـ حتى الأعماق ـ الإنسان، أبحث عنه ما وهبني الله من أنفاس تتردد في الصدر، وما كتب لي من هنيهات حياة فوق ظهر هذه الأرض، أجد في كلماته الخالصة ـ الصادرة من القلب ـ علاجًا لكثير من أدواء وأمراض الروح، والعلاج الأخير لا يُباع في صيدليات العالم الكيميائية، التي إن شفتْ من مرض أصابتْ بأخرى، وإن تكن لصاحب هذه السطور تجارب حياتية كثرتْ أو قلت، إلا أن عبق ورائحة الإنسان ـ بما يحمله من ضعف يغالبه، وقوة يحاول التحلي بها، وصراعات خفية غير معلنة، ورغبات دفينة ـ مهما حاول إخفاءها، فإنها تظهر على السطح، رغمًا عنه! وهي أفضل ما تعلم على مدار حياته.
وأفضل الذين تعلمتُ منهم السمو، وتناولتُ عنهم هذا الدواء، أولئك الذين تساموا في جراحهم، مهما كانت عميقة، وربوا وهذبوا نفوسًا، كان من الممكن أن «تجنح» خلف الحياة الدنيا، فتتيه طويلًا، وربما لا تفيق إلى قريب من الوفاة، وكم من البشر! بل إن هناك من البشر ـ ما لا يُعدُّ ولا يحصى ـ فعلوها!
«1»
مساء الاثنين 29 من مارس (آذار) وجدت «صنفًا» راقيًا من دوائي المُفضل، فانتعشتْ الروح، وتألقتْ النفس، وعاد الوجدان إلى أعلى درجات السمو، وارتاح العقل، وتوسم القلب خطى عظماء البشرية؛ لما استمعت إلى قول المستشار «محمد ناجي دربالة»، الذي كان نائبًا لرئيس محكمة النقض، وتشرف بالعزل عن القضاء لمناصرته الشرفاء في مصر، قال المستشار دربالة:
«إن مهنة القضاء هي المهنة التي أجيدها، ولا أجيد غيرها من مهن الدنيا، ولولا أن أهلها أخرجوني منها لما خرجت، ولكني أثق في الله، ثم في آلاف القضاة؛ ليقترب أوان عودتي إلى منصة القضاء»!
والكلمات عقب إحالة المستشار «دربالة» ـ الاثنين ـ و32 قاضيًا، إلى المعاش، ليكون أول قاضٍ ـ في التاريخ! ـ يُعزل من منصبه مرتين في أسبوع، القضية الأولى: «قضاة من أجل مصر»، والثانية: «بيان رابعة»، وكانت تكفيه قضية واحدة!
أما كلمات الرجل بأن مهنة القضاء هي المهنة الوحيدة التي يجيدها، فكلمة مُسلّمٌ بها لدى كل صحيح العقيدة، مؤمن برسالته، يحاول ـ بشتى الطرق ـ الإخلاص في عمله، موقنًا بأن الأمم لا تتقدم، إلا بسلوكها، وسيرها في طريق «التخصص»، فالرجل ليس «الفهلوي» ـ والعياذ بالله ـ الذي يجيد مهنة وأخرى، ويرتاد «علب الليل» كذلك الذي لفق له التهم، وتم تعيينه وزيرًا للعدل، ثم فضحه الله؛ فأقيل، بعدما رفض الاستقالة، (ولا يشرف مقام علاج الروح مجرد ذكر اسمه!) بعد أن زلّ لسانه فسب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحكم على نفسه بالإقالة، وأحرجها، كما أحرج «أسياده»!
يقول المستشار «دربالة»: لا أجيد من مهن الحياة الدنيا، إلا القضاء!
الله على تلك الكلمات، وإنها لا تحتاج إلى علامات تنصيص؛ إذ إنها تفوق كل علامات التنصيص؛ لتقول إن مهن الدنيا تتلاشى أمام مهن الآخرة، وياله من زوال، وياله من رقي ورفعة في اللفظ، وسمو في المعاني يفوق النثر، إلا القرآن والسنة وما دار في فلكهما العالي، ويتضاءل أمامه الشعر!
أما القضاء المصري الذي تظلمت لديه، والعالمي الذي هددتَ باللجوء إليه، فإنه لن يغني عنك يا أيها المستشار؛ إن أراد الله رفعتك في الآخرة أكثر، بحرمانك مما تحب في الحياة الدنيا؛ ليدخره لك ذخرًا في الآخرة!
«2»
المستشار «هشام جنينة» تمتْ إقالته في نفس يوم الاثنين الماضي، وهو رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات الذي عينه الرئيس «محمد مرسي» في منصبه على درجة وزير، في 6 من سبتمبر 2012، والجهاز يخضع مباشرة لرئاسة الجمهورية، وكان المستشار «جودت الملط» قد استقال منه في مارس 2011، وشغلته بصورة مؤقتة السيدة «منيرة أحمد»، ولم يكن، لا الدستور الانقلابي «2013»، ولا دستور «2012» يجوِّز لقائد الانقلاب عزل المستشار «جنينة»، واضطر «السيسي» أمام ذلك في يوليو (تموز) 2015 لإصدار قانون «مفصل على مقاس» إقالة الرجل باسم «إقالة رؤساء الهيئات المستقلة»، ووافق عليه مجلس الشعب الانقلابي، وبمقتضى القانون أقيل أحد رموز تيار استقلال القضاء في نفس يوم الإقالة الثانية لـ«دربالة»، لكن الفارق هائل.
حاول المستشار «جنينة» التوافق مع «الوضع» بعد الانقلاب، فكانت خطيئته التي لم تبق له، وهو مَن هو، رمز من رموز تيار الاستقلال، فقال مما قال، في حوار مع جريدة «الوفد» في 30 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2013 «إنه وضع روحه على كفه في 30 يونيو (حزيران) تنفيذًا لإرادة الشعب»، في عبارة منقولة «بالمسطرة» عن أكاذيب «السيسي»، بل راح يتمادى في وصف الرئيس «مرسي» بالمعزول، ويعدد في نفس الحوار أخطاء الرئيس «محمد مرسي» التي عابها عليه في حكمه، إلا أن الأخير لم يستمع إليه!
في 12 من يوليو (تموز) 2015 صرح المستشار «جنينة»، فيما نقله عنه موقع «مصر العربية» قال: «إنه لا يمكن عزله بقانون (السيسي)» مشيرًا، مرة أخرى، إلى معارضته الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس «محمد مرسي»، ثم إن المستشار «جنينة» في 23 من ديسمبر (كانون الأول) 2015 فيما نقلته عنه «اليوم السابع» الانقلابية، قال: «إن تكلفة الفساد في مصر تجاوزت 600 مليار جنيه في 2015 فقط»، والسنة لم تكن انتهت، مشيرًا إلى فساد القضاء والداخلية تحديدًا، وأن أجهزة رقابية تتستر على هذا الفساد.
واكتملت «منظومة» قيامة الدنيا الانقلابية عليه وعدم قعودها، وكأن «جنينة» المُعلن عن الفساد هو الفاسد، وكأن الـ600 مليار جنيه منتهى فساد مصر في عام، تمادوا في القول بأنه «خلايا إخوانية نائمة»، وإن إقالته اقتربت أكثر. ولم ينفع الرجل تصريح آخر له بإن الفساد المذكور في 4 سنوات، بما فيها عام حكم الرئيس «محمد مرسي»، من جديد، وكما لم ينفعه القول بأن «السيسي»، وفق رأيه، لن يسمح بإقالته ويتركهم يذبحونه لمجرد تصديه للفساد، كما لم ينفعه القول بأن لديه مفاجآت سينشرها عقب الذكرى الخامسة لثورة يناير، كما لم ينفعه اعترافه بـ «30 يونيو» كثورة!
أمس الأول السبت، كرم المستشار «جنينة» زوجة النائب العام الراحل «هشام بركات»؛ في محاولة أخيرة لنيل رضا النظام الانقلابي، واليوم تم استدعاؤه لنيابة أمن الدولة، قيل: «العليا»، بعد صدور بيان منها يخصه، وبعد منع النشر في قرارات اللجنة التي أعلنها «السيسي»؛ للتحقيق في تصريحاته عن الفساد ومراجعة المستندات، لجنة من الوزارات التي أعلن المستشار جنينة فسادها، أي «أعطوا القط مفتاح القرار» أو في قول آخر:«قالوا للحرامي احلف قال: جالك الفرج»!
مشكلة المستشار «جنينة» أنه، كما قال أحد الأصدقاء، أراد الوقوف في المنتصف بين مبادئه والظلم المنتشر في مصر، أي أن يكون رمادي اللون، في وقت لا مجال فيه، إلا للمفاضلة بين العبودية والتحرر، مناهضة الانقلاب أو الاعتراف به، الحياة أو الموت، وكم كنتُ أحب له أن يأخذ موقفًا واضحًا منذ البداية، منذ علم على وجه اليقين أنهم «ذابحوه» لا محالة. وساعتها كان يحق له أن يفتخر، كما فعل المستشار «دربالة» «بيدي لا بيد عمرو». في إشارة إلى أنه خير له أن يشرب السم ولا يقتله عدوه!
«3»
لم يستقل المستشار دربالة، لكن يكفيه شرفًا أنه لم يرض بالظلم، ولم يمدح الظالمين، وأنه أعلن الوقوف عند مبادئه، دون مليمتر إلى الخلف، أو اعتراف بـ«ظالم»، ولم يتنازل عنها قابلًا سب الذين جاهدوا من أجل أن يروا مصر في ظلهم بريئة، طاهرة نقية. فيما ارتضى غيره منتصف الطريق والتلاقي مع الانقلاب والظلمة، في المسافة التي ظنها تحتمل «مبادئه» و«المنصب»، ومن أسف لم ينل الأخير على الأقل!
تُرى كم من مستشار وإعلامي ووزير ورئيس وزراء ومقرب من الرئاسة، مهما كان مسماه الوظيفي، سيخسر منصبه عما قليل ليخسر كرامته أمام نفسه وأهله؟ ولا يكسب من الانقلابيين سوى الندامة! أبشر الكثيرين؛ فقد فعلها «السيسي» مع وزير داخليته شريكه في «حمام الدم» «محمد إبراهيم»، وفعلها مع رئيس وزراء تفكيك مصر «إبراهيم محلب»، ومع سابقه، أول رئيس وزراء له، ذلك الذي لا يذكر أحدًا له اسمًا، إلا بالكاد، «د. حازم الببلاوي»، ومع «د. حسام عيسى» الذي أعلن الإخوان جماعة إرهابية، قبل أي تبرير قضائي، وضحى بتاريخه؛ مقابل أن يستمر وزيرًا، كقطعة الشطرنج، فلم يستمر، ومع «د. درية شرف الدين» التي أرادت أن تظل وزيرة على حساب دماء وإصابة واعتقال وتشتت الملايين، فما دامت لها الوزارة ولا غيرها، والقائمة تطول جدًا.
ويا كل مَنْ خان! أُبشركَ؛ عما قريب يأتيك الدور! ولو كنتَ قائد الانقلاب، وإن غدًا لناظره قريب!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست