ملخص المقال السابق

1- نبهنا على المحور الأهم الذي دار حوله مقال أ. عماد، وهو محاولة إثبات أن الضرر الواقع على المرأة التي يتزوج عليها زوجها هو (بأس) يبيح لها طلب الطلاق، ويعفيها من الإثم المترتب على طلبه، بِناءً على المُسَلَّمَة التي توصل إليها، ألا وهي: (البأس هو الضرر)، وسنرد عليها في مقالنا هذا ردًا شافيًا لا يبقى بعده رَدٌ إن شاء الله.

2- كما قررنا أن الكاتب لم يسلك المسلك العلمي المتبع في مناقشة مثل تلك القضايا الفقهية، وأنه انتهج نهجًا عاطفيًا، استمال به القارئ لجانب المرأة ضد تشريع التعدد والفقهاء [القُسَاة!].

3- ذكر (تبريرات) تشريع التعدد، ولم يذكر مَن قال بها؟ ولا أين قال بها؟ واقتصر على ثلاثة منها فقط! رغم وجود عديد من الـ [حِكَم] الأكثر واقعية ومعقولية لهذا التشريع، لكنه أعرض عنها تماما مع اشتهارها في كتب أهل العلم سلفـًا وخلفـًا!

4- رددنا على كلامه على التبرير الأول منها، وأثبتنا بالمصادر الموثوقة خطأ ما قرره الكاتب، بل أثبتنا أن العكس هو الصحيح!

 

وَجَدتُّهـــــــــــــــــــا!

انتقل كاتبنا –بعد ما شحن القارئ ضد فكرة التعدد من الأصل- ليبحث عن حكمة من هذا التشريع، مُعَنْوِنًا لفقرته (الحكمة التائهة)! وبدأ الكلام في سياق أن الحكمة من تشريع التعدد (تائهة) غائبة (نحاول البحث عنها ولا نجدها)! وهذا يجعل تشريع التعدد –من وجهة نظره- (دون وجاهة معتبرة)! مما يسبب للمسلمين معاناة في (تبريره لغير المسلمين)!

وهنا تَفَتَّقَ ذهنُ كاتبنا عن (جانب كامل نُغْفِلُه) [نحن]، وقد انتبه [هو] له! ألا وهو أن مقتضى العدل الذي يقوم عليه شرعنا الحنيف يعطي المرأة الحق في طلب الطلاق –لا الخلع- إذا تزوج عليها زوجها، بِناءً على عدة افتراضات ومقدمات جَدَلِيَّة، أَذكرُها مُرتَّبةً، ثم أناقشها بالمنطق العلمي ذاته الذي استعمله أ. عماد.

 

هذه المقدمات هي:

  • (مجرد) زواج الرجل بزوجة أخرى = ضرر للزوجة الأولى. (والزواج من أخرى في حد ذاته ضرر، حتى لو عدل بينهما).
  • طلب الزوجة الطلاقَ يجوز في حالة البأس فقط، لحديث: “أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة”.
  • الضرر = البأس. (والبأس هو الضرر).
  • النتيجة: بِناءً على ما سبق، يجوز للمرأة التي تزوج عليها زوجها أن تطلب الطلاق – لا الخلع- لوقوع الـ (بأس) عليها جرَّاءَ ذلك الزواج.

وهنا يتنفس القارئ الصعداء؛ إذ وجد أ. عماد الحل، أخيرا، وانتبه للحكمة التي كانت (تائهة) من تشريع التعدد!

لكن يَأبَى أ. عماد إلا أن يصدم قارئه، لا في الشيخ الذي ذكر جوابه القاسي أول مقاله، ولكن في فقهاء المسلمين جميعًا هذه المرة! حيث يذكر أنهم لم يعتبروا (مجرد) زواج الزوج بأخرى (بأسًا) يبيح للمرأة طلب الطلاق، كما توصل هو إليه في فرضيته المنطقية، وأنهم  اعتبروا (الحزن الكبير) و(الخصم من وقت المرأة) و(المشاعر السلبية، كالوحدة والغيرة هي أمور غير معتبرة أصلاً) يا لقسوتهم هؤلاء الفقهاء!

محل النزاع ومربط الفرس و(الزتونة)!

وقد جاء وقت وفائي بوعدي لك قارئي الكريم، أن أرد على المقدمات الجدلية والنتيجة التي وصل إليها أ. عماد، فأقول:

  • أما مقدمته الجدلية الأولى: (مجرد) زواج الرجل بزوجة أخرى = ضرر للزوجة الأولى. فلست أناقشه فيها، بل أُسَلِّم له في وصفه الزواجَ الثاني بالضرر. وأزيدك: أن العرب إنما تسمي الزوجة الثانية (ضُرَّة) لما تسببه من ضرر للأولى.
  • وأما المقدمة الثانية، والتي أورد فيها الحديث: “أيما امرأة ..”، فأيضًا أوافقه فيها، ولا اعتراض لي عليها.
  • ونأتي هنا للخلل الذي وقع فيه أ. عماد في مقدمته الثالثة، حيث اعتبر الضرر = البأس، وقال نصًا: (والبأس هو الضرر).وهنا ليسمح لي أن أصحح له فهمه لمعنى البأس، فهو مربط الفرس ومحل النزاع في هذه القضية، فأقول:

إن الشرع الذي يحكمنا شرع عربي، قال الله: “وكذلك أنزلناه حكمًا عربيًا” (الرعد : 37) ولذلك فإن اختيار الألفاظ في الشرع له دلالة دقيقة لا تخفى على دارسٍ للغة العربية وعلومها وفقهها، فاختيار النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث للفظ (بأس) مقصودٌ ليدلنا على معنى خاص يعرفه مَن عرف العربية وأساليبها.

إذا تقرر هذا فلنذهب لمعاجم العربية لنعرف ما معنى كل من البأس والضرر في لسان العرب؟ وهل حقًا (البأس هو الضرر) كما زعم الكاتب؟

 

ليس الضرر هو البأس يا صديقي!

جاء في المعجم الوسيط:

البَأسُ: الشِّدَّة في الحرب، والبَأسُ: الحرب، والبَأسُ: العذاب الشَّديد، والبَأسُ: الخوف.

ضرر: مصدر ضر، [وله معانٍ]: أذى، مكروه، شدة، ضيق، نقصان يدخل في الشيء، مرض يقعد عن العمل والسعي.[1]

فهل وجدت يا أ. عماد معناهما واحدًا؟ أم أن هناك فارقـًا بينهما؟ ودعني أزيدك في مسألة الفارق هذه، فأُتْحِفَك بما ذكره أبو هلال العسكري، في كتابه (الفروق اللغوية)، حيث ذكر فارقًا كبيرًا بين الضرر والضُّرّ والضراء والبأس والبأساء، وإليك نص كلامه:

“ومن وجه آخر، أن الضُّرَّ أبلغ من الضرر، لأن الضرر يجري على (ضَرَّه يضُرُّه ضَرًّا)، فيقع على أقل قليل الفعل؛ … والضُّرُّ للمبالغة.

الفرق بين الضُّر والضراء، أن الضراء هي المضرة الظاهرة.

الفرق بين الضراء والبأساء، أن البأساء ضراء معها خوف، وأصلها البأس، وهو الخوف، يقال: لا بأس عليك، أي لا خوف عليك. وسميت الحرب بأسًا لما فيها من الخوف.[2]

فهل بعد ذلك البيان مِن بيان؟!

وهكذا لا تَسْلَم لك أ. عماد فرضيتُك الجدلية الثالثة التي بنيت عليها النتيجة التي وصلت إليها من أن (البأس هو الضرر)، ومن ثم تسقط كل الأحكام التي رتبتها عليها في آخر مقالك فيما يتعلق بمسألة الخلع واشتراط عدم التعدد.

سؤالٌ أم اتهامٌ أم ذريعةٌ!

واسمح لي أن أجيبك عن تساؤلك [العجيب] الذي طرحته أنت ثم أجبته ورتبت عليه أحكامًا متعلقة بالخلع واشتراط عدم التعدد قبل الزواج، ويؤسفني أن كل ما بنيته صار أدراج الرياح؛ لفساد البناء المنطقي له كما قررنا! وسؤالك هو: هل يمكن أن ينتج ضرر عن شيء أباحه الله؟

ولكن قبل الإجابة، دعني أسألك: ما نوع الضرر الذي قصدته؟ هل قصدت ضررًا يشمل المسلمين جميعًا؟ أم قصدت مطلق الضرر، ولو كان ضررًا خاصًا؟ فإن كانت الأولى فالإجابة: لا قطعًا. وإن كانت الثانية فالإجابة: نعم قطعًا! أليس في القصاص من القاتل وقطع يد السارق وغيرها من الحدود الشرعية ضررًا على من تطبق عليهم؟! ولكن هذا الضرر لا يذكر في مقابل حماية المجتمع ككل من ضرر أكبر، فهو ما يسميه الفقهاء: ضرر غير معتبر.

ولنضرب مثالاً وثيق الصلة بما نتكلم حوله، فالطلاق من المباحات التي أباحها الله للرجال، وإن كان أبغض الحلال،[3] إلا أنه حلال في النهاية، فلو أن رجلا كَرِهَ امرأته، ورغب عنها، وخَشِيَ أن يظلمها، فأعطاها حقها الشرعي ولم يبخسها منه شيئًا، ثم طلقها، وهي في الوقت ذاته تحبه وترغب في استمرار علاقتهما، وأن يُرَبَى أبناؤهما بينهما، ولكنه أصر على الطلاق، وهذا الطلاق سيوقع ضررًا كبيرًا بهذه المرأة المُحِبَّة، وسيحرمها عائلَها ودفءَ بيتها ووو ..، فهل يقول أحد من المسلمين إن الطلاق ليس مباحًا له؟! بالطبع لا، فكيف إذن ينتج ضرر عن شيء أباحه الله؟

الجواب: أن العبرة هنا بالضرر الأعمّ لا الخاص، العبرة بالظلم الذي سيقع –حتما- على هذه الزوجة إذا استمر زواجها، جَرَّاء كُرْه زوجها لها، فقد يحمله ذلك الكره على حرمانها حقًا من حقوقها الشرعية، كالنفقة أو الجماع، مما قد يفتنها في دينها، ولربما لحق الضررُ بأولادها منه، والواقع يشهد بحالات كثيرة ظُلِمَ فيها الأولاد نتيجة كُرْه أحد الأبوين للآخر، فقد يمتنع عن رعايتهم أو الإنفاق عليهم، مما قد يفسدهم نفسيًا ودينيًا وخلقيًا، وبالتالي سيعود فسادهم هذا على المجتمع ككل، وهنا يكون الطلاق –وإن أضر بالمرأة والأولاد- مؤقتًا، إلا أنه حال دون تفاقم حالة الـكُره لدى الزوج، والتي قد تؤدي لمظالم كثيرة تضر بالمجموع ضررًا بالغًا في قابل الأيام!

فالشرع هنا يعمل بقاعدة: “دفع أكبر الضررين بارتكاب أخفهما”، وهذه قاعدة متفق عليها بين علماء المسلمين سلفـًا وخلفـًا، ومفهوم من لفظها أننا قد نرتكب ما يضر الفرد دفعًا لضرر المجموع، أو نرتكب الضرر اليسير القريب، دفعًا للضرر الكبير البعيد.

وهنا قد يعترض معترض قائلاً: أَوَلَيس قد أثبتنا أن التعدد ضرر، وكذلك الطلاق ضرر، فللمرأة إذن أن تطبق تلك القاعدة عليها، فترتكب أخف الضررين -من وجهة نظرها- وهو  هنا الطلاق، دفعًا لأكبر الضررين –من وجهة نظرها أيضًا- وهو هنا التعدد؟

فنقول: إن اعتراضك قد يسلم لك، لولا حديث النهي عن طلب الطلاق إلا للبأس، وهذا كما يقول العلماء: “نصٌ في محل النزاع”، ولا اجتهاد مع النص، بل الاجتهاد في فهمه وتطبيقه لا في رده بوجهات نظرنا التي قد تكون قاصرة عن إدراك الحِكَم الإلهية من التشريعات، فإننا لو فتحنا الباب على مصراعيه لإعمال هذه القاعدة دونما تَقَيُّدٍ بقيود الشرع وأُطُرِه العامة ومقاصده التشريعية؛ لصار الشرع كله مَطِيَّةً لأهواء وأمْزِجَة الناس ونظراتهم الضيقة للأمور وعواقبها.

خلاصة ما تقدم:

1- الشرع لا يمكن أن يبيح ما يترتب عليه ضرر لعموم الناس، وإن ترتب عليه ضرر لبعض الأفراد، فهو ضرر غير معتبر نظرًا لمصلحة الأمة كلها.

2- قطعًا تتضرر المرأة بزواج زوجها من أخرى، ولكن هذا الضرر لا يصل –في غالب الأحيان- لدرجة البأس الذي يبيح لها طلب الطلاق من زوجها، فإن بلغ مرحلة البأس –كما عرفه علماء اللغة واستعمله الفقهاء- فلا حرج عليها شرعًا ولا عقلاً في طلبها الطلاق من زوجها، وعلى الزوج ساعتَئِذٍ أن يطلقها ويعطيها حقوقها كاملة، وألا يُلْجِئَها لأن تختلع منه.

هذا، والله تعالى أعلم وأحكم.

 

_____________________________________________________________________________________________

[1] اقتصرت على ما ورد في المعجم الوسيط، ومن أراد الاستزادة فليرجع لمعاجم العربية الموسعة كلسان العرب ومختار الصحاح وغيرها.

[2] (الفروق في اللغة) لأبي هلال العسكري، ص 198  ط. دار العلم والثقافة بالقاهرة. (بتصرف يسير)

[3] على افتراض صحة حديث: “أبغض الحلال عند الله الطلاق”. وهو حديث ضعيف.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد