بويع المعتصم بالخلافة بعد وفاة أخيه عبد الله المأمون، ويعتبر عهد الخليفة المعتصم من أكثر العهود التي حدثت فيها معارك وصدامات كبرى بين الدولة العباسية والإمبراطورية البيزنطية، ويمكن أن نقسم شكل العلاقة بين الدولة العباسية والإمبراطورية البيزنطية في عهد المعتصم الى مرحلتين متمايزتين:

المرحلة الأولى: وهي الفترة الممتدة من ولاية المعتصم عام 218 هـ وحتى حملة الإمبراطور البيزنطي ثيوفيل على زبطرة عام 223 هـ.
أما المرحلة الثانية: فبدأت بخروج المعتصم لفتح مدينة عمورية عام 223 هـ، وحتى وفاته عام 227 هـ.

 

المرحلة الأولى من الصراع بين المعتصم وثيوفيل:

من 218هـ إلى 223 هـ

في هذه المرحلة حاول كل من المعتصم وثيوفيل أن يلتفت إلى مشاكل دولته الأكثر خطورة والأبعد أثرًا، فبالنسبة إلى المعتصم كان أمامه عدد من التحديات الصعبة وهي: –

  1. تثبيت مركزه كخليفة جديد في الدولة العباسية:

ذلك لأنه عقب وفاة المأمون ظهرت الدعوة لتنصيب العباس بن المأمون مكان أبيه الراحل، وهو الأمر الذي يشير إليه الطبري في بداية حديثه عن المعتصم في أحداث عام 218 هـ.

وكان من الطبيعي أن يتصدر ذلك الحدث اهتمامات المعتصم في ذلك الوقت؛ لأن الجند هم عماد الدولة وشوكة السلطان، ولا يصلح أمر الحكم إلا بهم، وعلى الرغم من مبايعة الجند للمعتصم وعلى رأسهم العباس بن المأمون له يوم وفاة المأمون إلا أن المعتصم استمر على حذره وحرصه في معاملة العباس ومؤيديه.

  1. ثورة بابك الخرمي:

بدأت تلك الثورة في عهد الخليفة المأمون إلا أنها اشتدت وزادت في عهد الخليفة المعتصم، وكان بابك يمد نفوذه على أراضي وأقاليم جديدة في كل يوم وتنضم إليه العديد من الحشود، وأدى ذلك إلى ضعف قبضة الدولة العباسية على كثير من نواحيها، ومما زاد من أثر ثورة بابك أن الجيوش العباسية لم تكن تستطيع القتال بكفاءة في المناطق الجبلية الوعرة التي كان يتحصن فيها بابك وجماعته.

ولذلك وجد المعتصم أن أهم أولوياته هو القضاء على فتنة بابك والقضاء عليه تمامًا قبل أن يقوم بأي عمل عسكري ضد العدو البيزنطي، وإذا كانت الأحداث الداخلية في الدولة العباسية هي التي عطلت المعتصم عن استكمال مشروع أخيه المأمون في ضرب الدولة البيزنطية إلا أن الأحداث الخارجية للإمبراطورية البيزنطية تكفلت بشغل ثيوفيل لبعض الوقت عن حروبه الحدودية المتصلة مع العباسيين.

فقد ركز ثيوفيل جهوده في تلك الفترة في محاولة استعادة جزيرة صقلية من أيدي المسلمين؛ ذلك أن الأهمية الاستراتيجية التي مثلتها جزيرة صقلية للإمبراطورية البيزنطية كانت أكبر وأهم من المعارك الحدودية مع الدولة العباسية.

ويمكن إجمال الأهمية الاستراتيجية لصقلية بالنسبة للإمبراطورية البيزنطية  في النقاط التالية: –

أ. دورها المهم في تشكيل خطورة على الشمال الأفريقي.

ب. دورها الكبير في الهيمنة على النشاط التجاري في البحر المتوسط.

وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي قام بها ثيوفيل لاستعادة صقلية من أيدي المسلمين إلا أن النتيجة النهائية كانت هي الفشل التام، وبعد أن تأكد ثيوفيل من صعوبة استرداد صقلية بدأ في إعادة النظر نحو مغامراته الحربية المتوقفة تجاه الدولة العباسية.

وهناك أمران من الممكن أن يساعدا على فهم كيفية سير الأحداث في تلك الفترة:

أ. عدم اهتمام المعتصم في سني حكمه الأولى بالتحصينات الحدودية:

فكما ذكرنا من قبل اعتاد خلفاء بني العباس أن يقوموا بإنشاء الحصون والقلاع في منطقة قليقيا وعلى امتداد الحدود مع الإمبراطورية البيزنطية.

إلا أن الطبري يذكر لنا حادثة مهمة جدًا في بداية حكم المعتصم؛ ففي معرض حديثه عن أحداث عام 218 هـ، يذكر أن المعتصم قد أمر بهدم ما كان المأمون أمر ببنائه بطوانة، وحمل ما كان بها من السلاح والآلة وغير ذلك مما قدر على حمله وأحرق ما لم يقدر على حمله وأمر بصرف من كان المأمون أسكن ذلك من الناس إلى بلادهم، وقد أدى تصرف المعتصم بتلك الكيفية إلى إفساد خطة حكيمة وضعها سلفه المأمون لضرب البيزنطيين.

ويبدو أن المعتصم في ذلك الوقت لم يكن يريد أن ينشغل إطلاقـًا بأمر تلك التحصينات الحدودية لأنها كانت تتطلب كثيرًا من الجهد والمال والسلاح، وهي المتطلبات التي لم يرد المعتصم استقطاعها من خطته الهادفة إلى توفير كل موارد الدولة للقضاء على ثورة بابك.

ب. انضمام مجموعات من أتباع بابك للإمبراطورية البيزنطية:

في عام 836 م تقوت الجيوش البيزنطية بانضمام جماعة من الخرمية بقيادة نصر الكردي،   وتذكر بعض المراجع أن بابك الخرمي قد اتصل بالإمبراطور ثيوفيل وعرض عليه أن يعتنق هو وأتباعه المسيحية وأن يكونوا في خدمة الإمبراطور مقابل أن يسبغ عليهم ثيوفيل حمايته ويساعدهم في قتال العباسيين.

أما المؤرخ ميخائيل السرياني فيذكر أن أتباع بابك الذين فروا إلى بلاد الروم وتنصروا قد فعلوا ذلك نتيجة لاشتداد القتال مع المسلمين، وأن كثيرًا منهم قد سئم مواصلة القتال ضد الفرس.

أما عن أعداد البابكية النازحين إلى أراضي الإمبراطورية البيزنطية فكانوا نحو خمسة عشر ألف رجل، وأمر ثيوفيل أن يتم توزيعهم على الثغور البيزنطية في شكل فرق بحيث تتكون الفرقة الواحدة من ألفين رجل.

وكان توافد تلك الجموع المدربة على حرب الجيوش العباسية وقتالها على الإمبراطور البيزنطي سببًا مهمًا في إزكاء عزيمته على مواصلة الحرب والقتال على جبهة العباسيين.

وفى عام 835م هجم عمر أمير ملطية على الأراضي البيزنطية القريبة منه فقابله ثيوفيل وانتصر عليه، وكان ذلك الانتصار هو أول خطوة في طريق عودة الصراع البيزنطي العباسي مرة أخرى.

وعندما أحس ثيوفيل بقوته وقدرته على الانتصار على العباسيين أرسل إلى ولاية أرمينيا بطلب الضرائب منها، وفي حين يذكر المؤرخ ميخائيل السرياني أن أهل أرمينيا قد رضخوا لأمر ثيوفيل واستعملوا الحكمة وأدوا إليه الضرائب كما أراد معللاً ذلك بعدم قدرتهم على الرفض إذ لم يكن لهم جيش، ترى في المقابل بعض المراجع الأخرى أن ثيوفيل قد قام فعلاً بالهجوم على أرمينيا وقتل أعداد كبيرة من سكانها ثم رجع إلى عاصمته وهو يجر وراءه كثيرًا من العوائل الأرمينية وكان ثيوفيل في ذلك الوقت يعرف أن المعتصم لن يستطيع حشد الجيوش لمواجهته قبل أن يتخلص من بابك الخرمي وظن أن الأمور تسير بحسب هواه.

 

حملة ثيوفيل على زبطرة عام 837م/223 هـ

أدت الانتصارات التي حققها الإمبراطور البيزنطي ثيوفيل في أرمينيا إلى إحساسه بقوته وقدرته على تحقيق نجاحات أكبر على الجبهة العباسية.

وفي عام 837م/223هـ جاءت رسل بابك الخرمي إلى ثيوفيل، وكان بابك يطلب المساعدة من الإمبراطور ويحرضه على قتال المسلمين لأن المعتصم قد وجه جميع جيوشه وقادته لحرب بابك، فإذا أراد ثيوفيل الخروج للحرب والقتال فإنه لن يجد أية مواجهة من العباسيين، وكانت الحروب بين بابك والعباسيين في ذلك الوقت قد وصلت لمرحلة النهاية؛ إذ إن الأفشين كان قد استطاع أن يحصر بابك في حصن البد المنيع، وشدد الخناق عليه بشكل جعل بابك يحتاج إلى مساعدة حليفه البيزنطي القوي.

وكان بابك يتوقع أنه بمجرد خروج الإمبراطور على الحدود العباسية البيزنطية فإن الخليفة المعتصم سوف يخفف عنه الحصار ويصرف جزءًا من القوات المحاصرة له لتقف في وجه الغزو البيزنطي.

وعندما وصلت رسل بابك للإمبراطور فكر في الأمر ووجد أنه من الأصلح له أن يجيب طلب بابك وعمل على فتح الطريق الذي يفصل بينه وبين بابك؛ ليكون في قدرتيهما تشكيل جبهة قوية ضد عدوهما العباسي المشترك.

وبحث ثيوفيل عن هدف لحملته على العباسيين وفي نهاية البحث استقر رأيه على غزو حصن  زبطرة المنيع.

 

أسباب اختيار ثيوفيل لحصن زبطرة هدفـًا لحملته:

أ – إن هذا الحصن كان من أحصن وأمنع الحصون العباسية في منطقة الجزيرة.

ب – قرب ذلك الحصن من الحدود البيزنطية.

ج – إن مدينة زبطرة كانت مسقط رأس والدة الخليفة المعتصم، ولذلك كان في غزوها وتدميرها إهانة شخصية للرجل الأول في الخلافة العباسية.

ويعلق بعض الباحثين على تلك النقطة بأن انتساب المعتصم أو أمه إلى مدينة زبطرة هو من الأساطير التي نشأت في العصور المتأخرة، وأن الهدف منها هو الربط بين ما حدث لزبطرة لكونها مسقط رأس المعتصم وما حدث بعد ذلك لعمورية لكونها مسقط رأس الإمبراطور ميخائيل والد ثيوفيل ومؤسس الأسرة العمورية.

أما عن موقع مدينة زبطرة فهو بين ملطية وسميساط والحدث في طرف بلاد الروم وموقعها الحالي في مدينة فيران شهر الحالية جنوبي غربي ملطية.

اهتم ثيوفيل بحملته على زبطرة اهتمامًا كبيرًا، وأراد أن يحقق نجاحًا يعوضه عن إخفاقاته السابقة في زمن المأمون؛ فقام بإعداد جيش ضخم بلغ تعداده مائة ألف وقيل أكثر، وكان عدد الجنود في ذلك الجيش ما يزيد عن السبعين ألف مقاتل بالإضافة إلى الأتباع، ويذكر المسعودي أن الجيش البيزنطي قد تألف من عدد من الجنسيات مثل البلغار والصقالبة وعدد آخر من الجنسيات، أما الطبري فيذكر أن فرقة من البابكية قد خرجت مع ثيوفيل.

ومعه من المحمرة الذين كانوا خرجوا بالجبال فلحقوا بالروم حين قاتلهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب جماعة رئيسهم برسيس، وكان ملك الروم قد فرض لهم وزوجهم وصيرهم مقاتلة                  ليستعين بهم في أهم أموره إليه.

ويتابع ابن الأثير الطبري في مقاله عن انضمام بعض البابكية في غزوة زبطرة إلا أنه لا يذكر اسم رئيسهم، والمحمرة الذين ذكرهم كل من الطبري وابن الأثير عند الحديث عن حملة ثيوفيل على زبطرة هم البابكية الذين تسموا بهذا الاسم نسبة إلى ثيابهم التي كانوا دائمًا ما يصبغونها باللون الأحمر ويتخذون لونها شعارًا لهم.

وكان هؤلاء البابكية ممن صحب ثيوفيل في حملته هم ممن انهزم عام 833 م في همذان على يد إسحاق بن إبراهيم وهو أحد قادة المعتصم.

زحف ثيوفيل بهذا الجيش الضخم إلى زبطرة قاعدة الثغور الجزرية، وحاصرهم ثم اقتحمها وقتل الحامية العباسية الموجودة بها، وتتفق المصادر الإسلامية والمسيحية على أن ثيوفيل قد قام بمذبحة بشعة عقب اقتحامه لزبطرة، ويصف الطبري ما قام به ثيوفيل عقب اقتحامه لمدينة زبطرة بقوله:

“فلما دخل ملك الروم زبطرة وقتل الرجال الذين فيها وسبى الذراري والنساء التي فيها وأحرقها..” 

وكانت مذبحة زبطرة عامة راح ضحيتها سكانها من اليهود والمسيحيين والمسلمين، ويبدو أن أكثر من عرف بوحشيته في تلك المذبحة من بين فرق الجيش البيزنطي كانت فرقة البابكية المحمرة الذين كان يقودهم نصر الكردي  فقد عرفوا بحوشيتهم المفرطة إلى درجة أن قاموا ب الخبائث مثل هتك النساء وشق بطونهم.

وبعد أن أنهي ثيوفيل تدمير حصن زبطرة أراد أن يكمل تدمير الحصون القريبة منه، ووجد أن حصن سميساط وملطية أصبحا هدفين سهلين له خصوصًا أن تلك الحصون لم تكن في حالة استعداد وتأهب للحملة البيزنطية الضحمة التي قام بها ثيوفيل.

اتجه ثيوفيل إلى الجنوب الشرقي فوصل إلى سميساط التي يسميها ميخائيل السرياني بزرشمشاط  وتسميها بعض المراجع شمشاط، وحاصرها وعزم على دخولها وأن يفعل بها كما في زبطرة، واستطاع بعد حصار قصير أن يدخلها فحرقها ودمرها وخربها حتى إنه لم يتركها حتى أصبحت رمادًا.

وبعد أن أتم ثيوفيل مراده في سميساط، اتجه شمالاً نحو مدينة ملطية، وكان أهلها قد سمعوا عما أصاب زبطرة وسميساط فأخذوا حذرهم، وعندما حاصر ثيوفيل ملطية خرج له قاضي المدينة وزعماؤها وقدموا إليه الهدايا، وقاموا بتحرير الأسرى الروم الذين كانوا في سجونهم.

وبعد أن وصل ثيوفيل إلى هدفه واستطاع أن يدمر القوى العسكرية الإسلامية في ثلاثة من أهم الحصون العباسية وجد أنه من الأفضل الرجوع إلى عاصمته لأنه كان يعرف أن المعتصم سوف يعمل على الانتقام لما حدث.

وكان الروم قد أرسلوا السبايا والغنائم أثناء حصار سميساط إلى بلادهم، مما جعل من طريق رجوعهم إلى القسطنطينية فرصة طيبة للاحتفال بانتصارهم بعد ذيوع أنباء النصر المظفر، وما نتج عنه من غنائم وسبايا، وعندما وصل ثيوفيل لمكان اسمه برياس على الشاطئ الآسيوي أمر ببناء قصر وزرع بعض الحدائق وإقامة قناة تخليدًا لنصره.

ودخل ثيوفيل القسطنطينية وسط مظاهر الفرحة العارمة واستقبله الشعب البيزنطي استقبال الأبطال؛ حيث خرج للقائه الأطفال مزينين بتيجان من الزهور وشيدت حلقات سباق ظهر فيها الإمبراطور وعليه ثياب زرقاء فوق عربة تجرها خيول بيضاء ولبس تاج النصر في حين كان الشعب ينادي أحسنت السير أيها السائق الأصيل.

وبالرغم من كون انتصار ثيوفيل في حملته تلك لم يؤد غلى نتائج بعيدة المدى أو يحدث أي تغيير في الحدود الاستراتيجية بين الدولة العباسية والدولة البيزنطية، إلا أن ما صاحب تلك الحملة من مذابح وجرائم بشعة مثل سمل الأعين وقطع الأنوف والآذان، وقد أدى إلى ذيوع حالة من الخوف والذعر بين المسلمين القاطنين على النقاط الحدودية البيزنطية، وهو ما أدى إلى إحساس البيزنطيين بتفوقهم وزيادة ثقتهم في أنفسهم بشكل كبير.

وبانتهاء حملة الإمبراطور البيزنطي ثيوفيل على زبطرة وما جوارها من الحصون الإسلامية الحدودية انتهت المرحلة الأولى من الصراع العباسي البيزنطي في عهد المعتصم، وابتدأت مرحلة جديدة عمل فيها المعتصم على الانتقام واسترداد هيبة الخلافة العباسية أمام العدو البيزنطي.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

الطبرى(ابن جرير) - تاريخ الرسل والملوك، تقديم ومراجعة: صدقى جميل العطار، ( 13 مجلد)، دار الفكر، بيروت، 2010 م.
ابن العبري ( غريغوريوس أبو الفرج الملطي)- تاريخ مختصر الدول، صححه: الأب أنطون صالحاني اليسوعي، الطبعة الثانية، دار الرائد اللبناني ، الحازمية، 1983 م.
ابن كثير( أبو الفداء إسماعيل) - البداية والنهاية، تحقيق: عبد الله بن المحسن التركى، دار هجر، القاهرة ، 1998 م.
المسعودى ( أبو الحسن علي بن الحسين) - مروج الذهب ومعادن الجوهر ( 2 مجلد)، دار المعرفة ، بيروت ، 2005 م.
مؤلف مجهول - العيون والحدائق في اخبار الحدائق
ميخائيل السرياني - تاريخ مارميخائيل السريانى الكبير ( 3 مجلدات)، عربه: مارغريغوريوس صليبا شمعون، متروبوليت، حلب، 1996 م.
اليعقوبي ( أبو العباس أحمد بن إسحاق) - معجم البلدان، طبع باعتناء: وليام جوينتبول ، ليدن، 1860 م.
عرض التعليقات
تحميل المزيد