لم تكن الأندلس بحال جيدة بعد وفاة الأمير عبد الرحمن الثاني (الأوسط) إثر مجيء أمراء ضعفاء، لم يستطيعوا إحكام سيطرتهم على البلاد؛ فتدهورت أوضاع البلاد الداخلية وقام المنشقون والمتمردون على السلطة واستأثروا بملكهم. من العرب والمولدين والمستعربين والبربر الذين كان لهم طموح شديد، وتتنازعهم مشاعر السيطرة، والمشاركة في الحكم. وكان على رأس المتمردين عمر بن حفصون وأبناؤه، وشجعه بذلك تعصب المولدين والمستعربين له، بالإضافة الى الأخطار الخارجية التي كانت تهدد البلاد مستغلة بذلك ضعف الدولة وتفككها، فكان تولي الأمير الشاب، عبد الرحمن الناصر، للحكم؛ فاتحة خير على تلك البلاد لإعادتها الى سابق عهدها.
نسبه:
هو عبد الرحمن بن محمد، ابن الأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم الربضي، ابن هشام الرضّي ابن عبد الرحمن الداخل. وهو أول من تسمى بأمير المؤمنين، وتلقب بأحد الألقاب السلطانية؛ وهو الناصر.
حياته ونشأته:
ولد عبد الرحمن قبيل مقتل أبيه بأسابيع قلائل في 22 رمضان سنة 277هـ/ ديسمبر (كانون الأول) 891م، وأمه جارية إسبانية نصرانية تدعى «ماريا» أو «مزنة» حسبما تسميها الرواية العربية، فنشأ الطفل اليتيم في كفالة جده مرموقًا بعين العطف والرعاية، وأسكنه جده معه بالقصر دون ولده. وما كاد يبلغ أشده حتى ظهرت نجابته، وأبدى بالرغم من حداثته تفوقًا في العلوم والمعارف الى درجة تسمو على سنه، ودرس القرآن والسنة وهو طفل لم يجاوز العاشرة، وبرع في النحو والشعر والتاريخ، ومهر بالأخص في فنون الحرب والفروسية، وأقبل عليه جده الأمير يخصه بحبه وثقته، ويرشحه لمختلف المهام، ويندبه للجلوس مكانه في بعض الأيام والأعياد لتسليم الجند عليه؛ وهكذا تعلقت آمال أهل الدولة بهذا الفتى النابه، وأضحى ترشيحه لولاية العهد أمرًا واضحًا مقضيًّا، بل يقال إن جده قد رشحه بالفعل لولاية عهده؛ وذلك بأن برئ بخاتمه إليه، حينما اشتد عليه المرض إشارة باستخلافه.
توليه للحكم:
كانت الدولة في الأندلس في وضع عجزت معه عن ردع المغيرين على أطراف العاصمة قرطبة نفسها بعد أن تجاذبتها الأعاصير من كل صوب، وتفاقم أمر التحدي الداخلي للسلطة مما أعطى للتحديات الخارجية فرصًا سانحة وسهلة لتحقيق ما كانت تبغيه من التوسع على حساب سيادة الدولة العربية، وهذه الظروف العصيبة التي عاشتها الدولة العربية في الأندلس لم تكن بغية الطامعين في الحكم، فقد كانوا تواقين بالأجماع ودون اتفاق مسبق إلى مساندة كل شخصية يتوسمون فيها الخصال التي تعيد مكانة الدولة السابقة داخليًّا وخارجيًّا، فكان عبد الرحمن أقرب الشخصيات إلى هذه المواصفات.
وما كاد الأمير عبد الله يسلم أنفاسه الأخيرة حتى بويع حفيده عبد الرحمن بالمُلك. وجلس عبد الرحمن للبيعة، يوم الخميس غرة شهر ربيع الأول في قاعة «المجلس الكامل» بقصر قرطبة، فكان أول من بايعه أعمامه، وأعمام أبيه، وتلاهم إخوة جده، وقد مثلوا أمامه وعليهم الأردية والظهائر البيض عنوان الحزن على الأمير الراحل، وتكلم بلسانه عمه أحمد بن عبد الله فقال:«والله لقد اختارك الله على علم للخاص منا والعام، ولقد كنت أنتظر هذا من نعمة الله علينا، فأسأل الله إيزاع الشكر، وتمام النعمة، وإلهام الحمد»، وتتابع للبيعة بعد ذلك وجوه الدولة والموالي، ثم أهل قرطبة من الفقهاء والأعيان، ورؤساء البيوتات، واستمرت بيعة الخاصة على هذا النحو حتى الظهر، وعندئذ نهض الأمير الجديد فصلى على جثمان جده، ثم واراه في مدفنه بالروضة، ومعه الوزراء ورجال الدولة. وجلس لتلقي البيعة في المسجد الجامع صاحب المدينة الوزير موسى بن محمد بن خدير، والقاضي أحمد بن زياد اللخمي، وصاحب الشرطة العليا ابن وليد الكلبي، وصاحب الشرطة الصغرى، أحمد بن محمد بن حدير، وصاحب أحكام السوق محمد بن محمد بن أبي زيد، فاستمرت بضعة أيام. وكذلك أنفذت الكتب بأخذ البيعة إلى العمال في سائر الكور، وأخرج الأمناء إلى البلاد لأخذها، وتتابعت الردود بإنجازها من جميع النواحي.
وأول عمل قام به الأمير بعد اعتلائه كرسي الإمارة إعلان سياسته من خلال منشور عام وجه بالدرجة الأولى إلى العناصر المناوئة والخارجة على السلطة ويقوم المنشور بالأساس على مبدأين:
الأول: التأكيد على التسامح وإسقاط كافة الجرائم التي اقتُرفت بحق الدولة وإعادة كافة الحقوق المشروعة في حالة إعلان الولاء للسلطة المركزية.
الثاني: الوعيد والإنذار باجتثاث معاقل المتمردين والعابثين بأمن البلاد أو المتحالفين مع القوى الأجنبية ضد الدولة.
القضاء على الاضطرابات والثورات الداخلية:
لقد أيقن الأمير عبد الرحمن الثالث منذ البداية أنه ورث تركة ثقيلة وأن المهمات الملقاة على عاتقه صعبة نتيجة فقدان الأداة القادرة على التنفيذ والتحرك بمستوى الأحداث وجسامتها، لذا عمد إلى إصلاح الإدارة بما يتوازن ومتطلبات المرحلة، والاهتمام بالقوات العسكرية بما يحقق له تفوقًا على أعدائه مجتمعين، وأضاف إلى إمكانياته المتاحة إمكانيات وقوى أخرى بعد كسب العديد من زعماء المتمردين والخارجين واستخدامهم في ضرب القوى التي ظلت على عنادها واستمرت في الإغارة على ممتلكات الدولة.
ومن ثم فإنه لم تمض على جلوسه أسابيع قلائل حتى بعث حملته الأولى إلى المناطق الثائرة بقيادة الوزير عباس بن عبد العزيز القرشي، فقصدت إلى منطقة قلعة رباح، وكان قد ثار بها الفتح بن موسى بن ذي النون من زعماء البربر، ومعه حليفه الرياحي المعروف بأرذبلش، فوقعت بين جند الأمير وبين العصاة معارك شديدة، هُزِم فيها الفتح بن موسى، وارتد مغلولًا إلى معاقله وقُتِل أرذبلش، وبعثت رأسه إلى قرطبة، فرفعت فوق باب السدة، وطُهِرت قلعة رباح وأحوازها من الثورة وذلك في شهر ربيع الآخر. وسارت حملة أخرى نحو الغرب، واستردت مدينة إستجة من أيدي العصاة أتباع ابن حفصون (جمادي الأولى)، وهدمت أسوارها وقنطرتها الواقعة على نهر شنيل، حتى تعزل وتغدو بذلك عاجزة على التمرد والخروج.
وبدأ الأمير في شعبان من سنة 300هـ بقيادة القوات بنفسه محققًا بذلك هدفين: الأول: رفع معنويات الجند. والثاني: إثارة الفزع لدى قوات أعدائه. واختار منطقة وعرة في كورة جيان حوت المئات من الحصون والمعاقل العصية على الدولة وبدأت العمليات العسكرية بالإستيلاء على حصن مارتش، وحصن المنتلون بعد قتال شديد اضطر على إثره سعيد بن هذيل إلى الاستسلام في رمضان بعد يأس من جدوى المقاومة، وتوجهت القوات بعد ذلك إلى حصن شمنتان وزعيم المتمردين فيه عبيد الله بن أحمد بن الشالية الذي خارت قواه بعد سقوط حصن المنتلون، فاستسلم دون مقاومة ونزل عن جميع معاقله وحصونه، وكان عددها يقارب المائة، وفضلًا عن ذلك فقد تم تطهير العديد من الحصون التي كانت تدين بالولاء لعمر بن حفصون كحصن بكور، وحصن قاشترة، وحصن شنترة، وحصن أقليق.
وسار عبد الرحمن بعد ذلك جنوبًا إلى كورة ريَّه، فاحتل منها سائر الحصون التي تدين بالطاعة لابن حفصون، واقتحم أمنع هذه الحصون، وهو حصن شبليس بعد قتال عنيف، وقتل من كان به من أصحاب الثأر، وفر أمامه جعفر ابن حفصون ليلًا ولحق بأبيه، ثم استولى عبد الرحمن على حصن إشتيبن على مقربة من إلبيرة، واتجه بعد ذلك إلى وادي آش فاحتل حصونها، ثم توغل في شعب جبل الثلج (سيّرا نفادا) وافتتح ما هنالك من المعاقل والحصون. وحاول ابن حفصون أن يزحف إلى غرناطة، فخرج إليه أهل إلبيرة ومعهم مدد من جيش عبد الرحمن فردوه على عقبه.
وكان زعيم إشبيلية إبراهيم بن حجاج قد توفى، وخلفه في حكمها ولده عبد الرحمن، وخلفه في حكم قرمونة ولده محمد. ولما توفى عبد الرحمن في المحرم سنة 301هـ، تطلع أخوه محمد إلى أن يحكم إشبيلية من بعده، ولكن أهل إشبيلية اجتمعوا حول زعيم قوي آخر هو أحمد بن مسلمة وهو أيضًا من بني حجاج وقدموه لحكمها، وسبق محمد إلى الإستيلاء عليها. فسار محمد إلى قرطبة، وقدم طاعته إلى عبد الرحمن، فتقبلها وأوفد معه الجند بقيادة الحاجب بدر، فحاصر إشبيلية ثم استولى عليها في جمادى الأولى سنة 301هـ وهدم أسوارها، وندب لها عبد الرحمن واليًا من قبله، وانتهت بذلك ثورة العرب والمولدين في إشبيلية.
وقاد الأمير حملته الثانية في شوال سنة 301هـ مخترقًا أكثر الأقاليم حيوية واستراتيجية بالنسبة للمتمرد ابن حفصون ملقنًا قواته أقسى الضربات، وكانت المعركة الحاسمة قد دارت قرب قلعة طرش حيث تمكنت قوات الدولة من تدمير القوة الرئيسة للعصاة وأجبرتهم على الارتداد ناحية الغرب.
واستطاع أسطول عبد الرحمن أن يضبط عدة سفن محملة بالمؤن كانت قادمة من عدوة المغرب لإمداد ابن حفصون وأن يحرقها. وزحف عبد الرحمن على منطقة الجزيرة الخضراء، واقتحم حصن لورة الواقع بجوار الجزيرة، ثم دخل الجزيرة الخضراء في أوائل شهر ذي القعدة سنة 301هـ/914م. وسار عبد الرحمن بعد ذلك إلى شذونة ثم إلى قرمونة. وتم تطهيرها وطرد الغزاة منها.
وفي سنة 303هـ، وقع حادث داخلي مهم، هو جنوح عمر بن حفصون، أكبر ثوار الأندلس إلى الصلح والطاعة، فبعث إلى الناصر يخطب وده، ويلتمس الصلح. مقابل كتاب عهد له وللحصون التي كانت تحت سيطرته، وتم ذلك في 303هً (وانتهت الحصون التي دخلت في أمان عمر بن حفصون على ما وقع من تسميتها في كتاب العهد إلى مائة واثنين وستين حصنًا). وقد ظل ابن حفصون ملتزمًا ببنود هذا العهد حتى وفاته سنة (305هـ).
أما ابناء ابن حفصون، فكان جعفر في قلعة ببشتر نيابة عن والده، وعبد الرحمن في حصن طرش، وسليمان في مدينة أبذة، ثم حصن أشتبين. ولم يطل العهد بجعفر فقتل سنة 308هـ. على يد جماعة من أنصاره الذين ولوا سليمان مكانه، ولكن سليمان ما لبث أن غلبه الغرور فمارس دور أبيه في مقارعة السلطة المركزية معتمدًا على حصانة مدينة ببشتر. فقضي عليه سنة 314هـ واستسلم أخوه حفص في سنة 315هـ، بعد أن اجتاحت قوات الدولة القلعة وما يحيط بها من مواقع حصينة.
وبذلك استطاع الأمير عبد الرحمن استعادة السيطرة على أقاليم البلاد وتوحيدها – بفضل حكمته وشجاعته- وفرض هيبة الدولة بعد أن كانت معظمها تحت سيطرة الخارجين على السلطة حتى قيل إنه عندما تولى الحكم لم يكن يسيطر سوى على قرطبة وما حولها من القرى.
محاربة الممالك الإسبانية الشمالية:
وما كاد عبد الرحمن الناصر يتم توحيد الأندلس حتى اتجه إلى الممالك المسيحية بشمال إسبانيا، وكان خطر أردونيو الثاني ملك ليون (913 م-923م)، وشانجه الأول ملك نبرة قد ازداد زيادة ملحوظة منذ اعتلاء الناصر للإمارة، فقد حشد أردونيو الثاني جيوشه سنة 914م، وقصد مدينة يابرة فدخلها عنوة، وقتل عددًا كبيرًا من سكانها، واستشهد في هذه الموقعة حاكم المدينة مروان بن عبد الملك، وفي سنة 305هـ/917م التحمت جيوش المسلمين بقيادة أحمد بن محمد بن أبي عبدة مع جيوش القشتاليين في واقعة قرب شنت اشتبن انهزم فيها المسلمون واستشهد القائد. وعندئذ أحس الناصر بتطور الموقف إلى جانب الممالك الشمالية، فقام بنفسه سنة 308هـ/920م على رأس جيش كبير واتجه إلى جليقية ونبرة، فهدم حصن قاشتر ومورش وما جاوره من حصون، وكان أردونيو الثاني ملك ليون، وشانجة ملك نبرة قد استنجدا بملوك المسيحية، فلما التقت الجيوش انتصر المسلمون انتصارًا حاسمًا. ولما مات أردونيو الثاني سنة 924م خلفه أخوه فلويرة الثاني (924-925م) الذي مات بعد عام واحد، فولى مكانه أخوه أذفونش الرابع المعروف في المدونات الإسبانية باسم ألفونسو الراهب (925- 931م) الذي تنازل لأخيه راميرو الثاني (931-951م). وكان راميرو ملكًا شجاعًا شديد الصلابة استمرت الحرب بينه وبين عبد الرحمن الناصر دائرة عهدًا طويلًا، وكان أهم الوقائع الشهيرة موقعة الخندق التي انهزم فيها الناصر هزيمة شنعاء سنة 327هـ/939م قرب مدينة شنت مانكش، ومنذ هذه الهزيمة لم يعد الناصر يباشر الغزو بنفسه، وأخذ يحتاط في حروبه، وسجلت له الوقائع التالية بينه وبين جيوش ليون ونبرة انتصارت هائلة اكتسح بعدها هاتين الدولتين حتى أذعن له أعداؤه بالطاعة وهادنوه، وبعثوا إليه السفارات والهدايا طالبين الصلح، ففي سنة 344هـ/955م قدم إليه بقرطبة رسول الملك أردونيو الثالث بن راميرو يطلب السلم فعقده له، كما وفدت إليه الملكة طوطة وحفيدها سانجة المعروف بسانشو السمين الذي عزله نبلاء ليون وقشتالة عن عرش نبرة وليون، وولوا مكانه أردونيو الرابع.
وأكرم الناصر وفادة الملكة طوطة وحفيدها. وكان من نتائج هذه السفارة أن عقدت محالفة، كسب الناصر من ورائها حصونًا من مملكة شانجة مقابل مؤازرته لشانجة، وعمله على استرجاع العرش له بدلًا من أردونيو الرابع، ونفذ الناصر وعده وأرسل جيشًا استطاع أن يعيد به شانجه إلى عرشه سنة 349هـ/960م. غير أن شانجه لم يف بوعده للناصر، فاضطر ابنه الحكم فيما بعد إلى محاربته.
اتخاذ لقب الخليفة:
نظر عبد الرحمن الناصر إلى العالم الإسلامي من حوله، فوجد الدولة العباسية قد ضعفت، وكان المقتدر بالله، الخليفة العباسي في ذلك الوقت، قد قُتِل على يد مؤنس المظفر التركي، وقد تولى الأتراك حكم البلاد فعليًّا، وإن كانوا قد أجلسوا الخليفة العباسي القادر بالله على كرسي الحكم.
ثم نظر إلى الجنوب فوجد العبيديين (الفاطميين) قد أعلنوا الخلافة، وسمُّوا أنفسهم أمراء المؤمنين، فرأى أنه – وحَّد الأندلس، وصنع هذه القوة العظيمة- أحق بهذه التسمية وذلك الأمر منهم؛ فأطلق على نفسه لقب أمير المؤمنين، وسمى الإمارة الأموية بالخلافة الأموية. نفذ ذلك بأمر أصدره في ذي الحجة سنة 316هـ/929م. ودامت خلافته خمسين سنة وستة أشهر وثلاثة أيام.
بناء مدينة الزهراء:
بدأ الناصر ابتناء الزهراء –المدينة الخليفية- سنة 325هـ/936م. تقع على بعد خمسة أميال إلى الشمال الغربي من قرطبة، عند أقدام جبل العروس، اكتمل نموُّها في مدى أربعين سنة.
وكان يصرف فيها كل يوم من الصخر المنجور ستة آلاف صخرة سوى التبليط في الأسوس، وجلب إليها الرخام من قرطاجنة إفريقية ومن تونس، وكان الأمناء الذين جلبوه: عبد الله بن يونس، وحسن القرطبي، وعلي بن جعفر الإسكندراني، وكان الناصر يصلهم عن كل رخامة بثلاثة دنانير، وعلى كل سارية بثمانية دنانير سجلماسيَّة. وكان فيها من السواري أربعة آلاف وثلاثة مئة وثلاثة عشر سارية، المجلوبة منها من إفريقيا ألف سارية وثلاثة عشر سارية. وأهدى إليه ملك الروم مئة وأربعين سارية، وسائر ذلك من رخام الأندلس. وكان القصر الخليفي في المدينة وما حواه من قاعات، يعد آية من آيات الإبداع؛ فقد زين بكل ما يسر النفس وأتحف بكل نادر ونفيس.
ترميم المسجد الجامع في قرطبة:
لم ينس الناصر أن يشمل المسجد الجامع بعناية، أسوة بسائر أسلافه من بني أميَّة، فجدد واجهته، وزاد فيه زيادات كبيرة 346هـ/957م، وكان قبل ذلك قد هدم منارته القديمة، وأنشأ مكانها المنارة العظمى، وذلك في سنة 340هـ/951م. وكانت منارة الناصر تمتاز بفخامتها وارتفاعها الشاهق، وكانت مربعة الواجهات، ولها أربعة عشر شباكًا ذات عقود، وتحتوي على سلمين أحدهما للصعود، والآخر للنزول، وقد ركب في قمتها ثلاث تفاحات كبيرة، اثنتان منها من الذهب، والثالثة من الفضة، وكانت إذا أرسلت الشمس أشعتها عليها، تكاد تخطف الأبصار ببريقها.
وفاته:
في أوائل سنة 349 هـ مرض الناصر من برد شديد أصابه، واحتجب حينًا، وأكب الأطباء على معالجته حتى تحسنت حالته نوعًا، وعاد إلى الجلوس في القصر، ولكنه أصيب بنكسة، وعاد إلى احتجابه، ولبث أشهرًا تشتد به العلة حينًا، وتخف حينًا، حتى وافاه القدر المحتوم، في الثاني من شهر رمضان سنة 350 هـ/ 15 أكتوبر(تشرين الأول) 961م. وكانت وفاته بقصر الزهراء في الحادية والسبعين من عمره، واستطال حكمه زهاء خمسين عامًا.
ولقد عدَّ عبد الرحمن الناصر أعظم أمراء الإسلام في عصره، بل ربما كان أعظم عصره قاطبة. تولى حكم الأندلس ولم يكن يملك سوى قرطبة وما حولها، فاستطاع بفضل نباهته وشجاعته توحيد البلاد والقضاء على المتمردين على الرغم من صغر سنه، استمال بعضهم إلى جانبه أمثال عمر بن حفصون الرأس الأكبر للثوار، وعفا عن البعض بعد استسلامهم. واتخذ لقب الخلافة بعد أن رأى أنه أحق بها من غيره، وامتدت حدود دولته إلى الشمال الإفريقي، وقضى على تهديدات الممالك الإسبانية في الشمال، أما عن منجزاته العمرانية فقد بنى مدينة الزهراء إلى الشمال من العاصمة قرطبة، وقام بترميم المسجد الجامع. وكان يتمتع بخلال باهرة قلما تجتمع في شخصية واحدة، سياسية وعسكرية وإدارية. وكان يشبه في حزمه وصرامته وبعد نظره، بجده الأكبر عبد الرحمن الداخل.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست