في المقال السابق والذي كان بعنوان «عالمية الإسلام بين العقاد والمستشرق سوندرز» طرحنا عدة تساؤلات تدور كلها حول دعوة الإسلام؛ هل تعتبر دعوة عالمية أم دعوة محلية قاصرة على العرب؟ ومن ثم ناقشنا تلك القضية في ضوء نموذج للإجابة على ذلك السؤال من خلال إجابات العقاد على تساؤلات وتشكيكات المستشرق سوندرز، وقلنا أيضًا أننا سنقدم نموذجًا آخر للإجابة على تلك التساؤلات من خلال إجابات الدكتور عبدالرحمن بدوي، وها نحن نوافي ما قطعناه على أنفسنا من التزام في تلك السطور.
في كتابه «دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره» حاول عبدالرحمن بدوي أن يجيب على بعض المستشرقين في تكذيبهم للروايات التي تثبت عالمية الإسلام، وهو بتلك الطريقة قد خالف العقاد في طريقة تقديم إجاباته، فالعقاد اتخذ من القرآن راية يدافع بها عن عالمية الإسلام، أما عبدالرحمن بدوي، فاتخذ من الروايات التي أرسلها الرسول إلى ملوك بيزنطة وفارس والحبشة ومقوقس مصر سلاحًا يواجه به المستشرقين.
يقول المستشرق «فرانتس بول» في مقاله عن محمد في موسوعة الإسلام، وهذا حسب ما أورد بدوي في كتابه السابق ذكره يقول فرانتس: «أن هذه الرسائل من المقوقس حاكم الإسكندرية وإلى أمير الحبشة وإلى امبراطور بيزنطة.. إلخ والتي يدعوهم فيها إلى الإسلام هي رسائل ملفقة، وعلى كل حال فقد اتضح أنّ الادعاء بأن المخطوط الأصلي لكتاب النبي إلى المقوقس حاكم الإسكندرية ليس صحيحًا».
ليجيب بدوي فيبين أن عدم صحة المخطوط الأصلي لرسالة النبي إلى المقوقس لا يرقى لأن يكون دليلًا على عدم صحة كتاب النبي إلى المقوقس «من السهل أن تدحض الحجج التي يسوقها بول، كون الادعاء بأن المخطوط الأصلي لكتاب النبي إلى المقوقس حاكم الإسكندرية ليس صحيحًا، فإن هذا لا يعني شيئًا بالنسبة لصحة النص نفسه، فكلامه هذا مثل أن تثبت أن هذا المخطوط ليس إلا صورة طبق الأصل».
ويواصل فرانتس حديثه فينتقل من الحديث عن رسالة النبي إلى المقوقس إلى الكلام عن جميع الرسائل التي رويت في ذلك الشأن فيوضح أنه ما كان لتلك الروايات أن تأخذ هذا الجدال الفكري عند كثير من الكتاب؛ إذ هي مجرد أوهام صنعتها تلفيقات خاصة «ولكن ما روي في موضوع هذه الرسائل لا يستحق بداية تلك الأهمية التي أولاها له معظم من كتبوا عن النبي فهي مجرد أوهام صنعتها تلفيقات خاصة، حينما نراها يجب أن تعتبر أنه من غير الواقعي أن سياسيًّا محنكًا مثل محمد كان قد انتهى لتوه من تحقيق هدف حقيقي؛ وهو فتح مكة يمكن أن يغرق في خيالات وهمية من قبيل تحول هرقل أو ملك الفرس إلى الإسلام، وبشكل عام فإنه من المثير للشك أن يكون محمد قد فكر في أن دينه يمكن أن يصبح دينًا عالميًا».
وحول التلفيقات الخاصة التي لم يشر إليها بول لا من قريب ولا من بعيد يقول بدوي: «يتحدث بول عن الخصوصيات المتعددة الملفقة، والتي نجدها في كتابات النبي إلى الملوك، ولكنه لم يعطنا أي مثال عن هذه التلفيقات، وأي عربي متعلم بشكل جيد ومتخصص في اللغة العربية في فترة النبي سيجد أنه ليس في هذه الرسائل أي مخصصات تدل على التلفيق».
وحول الزعم الخاص بأن النبي لم يفكر في أن يجعل من دينه دينًا عالميًّا يثبت بدوي عكس ما أراد بول، فالنبي لم يكن في فكره هذا المفهوم المحدود عن الإسلام، بل هو في فكره دين الله لكل البشر، حتى إنه قد سعى لتطبيق هذا المفهوم الشامل، فحارب الروم وأرسل إليهم الجنود في حياته، ثم سار خلفاؤه من بعده في تطبيق هذا المفهوم الشامل عن طريق الفتوحات، «يقع بول في خطأ واضح حين يزعم أنه يشك كثيرًا في أن محمدًا يمكن أن يكون قد فكر أن يصبح دينه عالميًّا، لأن آيات السور المكية التي ذكرها بنفسه ( يشير إلى آية الفرقان رقم 1، وسبأ رقم 27، والأنبياء رقم ١٠٦، ويوسف رقم ١٠٤) هي براهين واضحة تهدم قضيته المعاندة للحقيقة، وقد قمنا في مرات عديدة بفحص منطق بول ومن على شاكلته من الذين ادعوا أن محمدًا كان يعد دينه دينًا خاصًّا بالجزيرة العربية فلم يكن لدى محمد في أي لحظة من اللحظات هذا المفهوم المحدود عن الإسلام، بل على العكس فقد اعتبر الإسلام دينًا لكل البشر، دينًا يجب أن يحل محل جميع الأديان وفي أي مكانٍ كان».
ويضيف بدوي «وقد شرع محمد أثناء حياته أن يضع هذا المفهوم موضع التطبيق فبعد أن أخضع الجزيرة العربية بأكملها قام بإرسال حملات عسكرية إلى الحدود البيزنطية فأرسل أولًا حملة إلى تبوك، وكان هو على رأس جيش عظيم من رجب إلى رمضان من السنة التاسعة للهجرة، ثم من رمضان إلى سفر من سنة 11 هجريًّا جهز جيشًا كبيرًا وجهه إلى الشام في منطقه البلقاء والدارم في فلسطين بقيادة أسامة بن زيد بن حارثة، وهذا يؤكد أن النبي كان ينوي أن يفتح بالإسلام البلاد المتاخمة للجزيرة العربية مثل بيزنطة والإمبراطورية الفارسية، وقد قام خليفته أبو بكر بمواصلة هذا التوسع فور توليه للخلافة، وخرجت الجيوش المسلمة لفتح الشام بعد شهر رجب من سنة 12 هجرية. وهذه الغزوات التي كانت في حياة النبي وبعد موته بعام واحد تثبت بما لا يمكن دحضه أن الإسلام في فكر مؤسسه محمد دينٌ عالمي يخاطب العالم أجمع».
وهنا يستحب بنا أن نستشهد بما قاله الأستاذ الإمام شيخ الأزهر محمد عبده في كتابه الشهير «رسالة التوحيد»: «وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، قد أبلغ رسالته بأمر ربه إلى من جاور بلاد العربية من ملوك الفرس والرومان، فهزءوا، وامتنعوا، وناصبوه وقومه الشر، وأخافوا السابلة، وضيقوا على المتاجر، فغزاهم بنفسه وبعث إليهم البعوث في حياته، وجرى على سنته الأئمة من صحابته، طلبًا للأمن، وإبلاغًا للدعوة، فاندفعوا في ضعفهم وفقرهم يحملون الحق على أيديهم، وانهالوا به على الأمم في قوتها ومنعتها وكثرة عددها، واستكمال أُهبها وعددها، فظفروا بما هو معلوم».
ثم يختم بدوي ردوده على بول: «وختامًا فإن كل الحجج التي يسوقها فرانتس بول ليثبت أن كتب النبي إلى إمبراطور بيزنطة هرقل، وإمبراطور فارس كسرى، والمقوقس حاكم الإسكندرية، وحاكم الحبشة مزيفة وملفقة لا تساوي شيئًا وتنم عن غباء نادر عند بول».
هذا وينتقل بدوى بعد أن ردَّ على فرانتس بول إلى الحديث حول صحة كتاب النبي إلى المقوقس لنجد أن المستشرق «جاستون وايت» قد شكك فيها، ويسوق بدوي حجج وايت فيقول: «لقد رأى أن كل المكاتبات بين النبي والمقوقس ملفقة وليدعم رأيه فإنه يسوق حجتين.
1- لم يكن طريق الإسكندرية مخولًا أن يستقبل الوفود الأجنبية ولا أن يرسل وفودًا للخارج.
2- إن الكتب المرسلة إلى المقوقس وإلى إمبراطورية بيزنطة وإلى النجاشي كتبت بألفاظ متشابهة وهذا يؤكد أنها ملفقة».
وحول الحجة الأولى يرى بدوي أن هذه الحجة لا تقوم على أساس؛ إذ كيف لملكٍ أن يكون منعزلًا عن العالم ولا يمكن أن تأتيه الرسل والوفود ولا يستطيع أن يرسل هو نفسه وفودًا أو رسلًا إلى خارج مملكته؟ يقول بدوي «وهذه الحجة لا تستند على أي وثيقة ولا يمكن تبريرها لأننا في المصادر العربية نقرأ صراحة أن (المقوقس ملك الإسكندرية) إذًا فكيف يكون ملكًا ولا يُسمح له باستقبال الوفود الأجنبية ولا بإرسال الوفود إلى الخارج، أي نوع من المماليك يمكن أن يكون هذا الرجل!».
وحول الحجة الثانية يستشهد الدكتور بدوي بما قاله العلامة الهندي محمد حميد الله فيقول: «وعن هذه الحجة أجاب محمد حميد الله وكان على حقٍ تمامًا حين قال: إن هذه الكتب الثلاثة كتبت وأرسلت في نفس اليوم ولنفس الهدف لثلاث أمراء مسيحيين، وكان الكتَّاب قد استفادوا من نفس الصيغة عند تحرير النصوص الثلاثة».
ويضيف بدوي على قول حميد الله: «والأهم من هذه الحجة هو الحدث الذي لا يمكن الشك فيه من أن المقوقس أرسل هدية إلى النبي هي مارية القبطية التي تسرَّى بها وولدت له ابنه إبراهيم، ولا يشك أحدٌ في هذه القصة، وبالتالي فإنه لا يمكن الشك في أنه كانت هناك مكاتبات بين النبي والمقوقس حاكم مصر، كما أنَّ نص خطاب النبي إلى المقوس لا يشتمل على أي شيء يمكن أن يثير الشك، فهو مجرد دعوة للدخول في الإسلام فما الغريب في ذلك؟».
وبعد هذا العرض لآراء بعض المستشرقين وردوده عليهم يذهب عبد الرحمن بدوي إلى الحديث عن ردود الملوك على رسائل النبي فينكر بداية صحتها، وخاصة رد هرقل فإن بدوي يرى أنه من المستحيل أن يكون هرقل قد كتب هذا الرد وفي ذلك يقول: «ولكن إذا كنت أحكم بصحة الكتب التي أرسلها محمد إلى الملوك الذين ذكرناهم آنفًا فليس الأمر كذلك فيما يخص الردود على هذه الرسائل، خاصة الرد المنسوب إلى هرقل، لأنه من المستحيل أن يكون هرقل قد كتب هذا الرد المنسوب إليه وإلا لاعتنق الإسلام».
ويستند بدوي في نفيه لصحة رد هرقل على رسالة النبي، فيقول بعد أن ساق نص خطاب هرقل إلى النبي: «في الواقع إنّ كل جملة وكل تعبير يصرخ شاهدًا على كذب وزيف هذا الخطاب، ومن ناحية أخرى فإن هذا الخطاب لم يورده إلا اليعقوبي (الجزء الثاني ص ٨٤) وهو مرجع مليء بالأساطير». وعلى الرغم مما قاله د. بدوي فإنه لم يذكر اسم كتاب اليعقوبي الذي وصفه بأنه مرجع مليء بالأساطير فاكتفى بالإشارة إلى الجزء الثاني ولعله كان يقصد (تاريخ اليعقوبي)، فإننا بحثنا وراءه ووجدنا أنّ اليعقوبي قد ذكر نص الخطاب في الجزء الثاني من تاريخه وفي الصفحة نفسها التي أشار إليها عبد الرحمن بدوي.
هذا ويجدر بنا أن نشير إلى حدث مهم وهو ظهور وثائق ومخطوطات رسائل النبي إلى ملوك كل من: فارس وبيزنطة ومصر والحبشة وغيرها من الوثائق إلى أمراء الجزيرة العربية، ولكن ما يخصنا من تلك الرسائل ويفيد بحثنا حول إثبات عالمية الإسلام هو رسائله صلى الله عليه إلى ملوك العالم خارج الجزيرة العربية فإن ثبتت تلك المخطوطات وتأكدنا من صحتها فإن هذا يقطع كافة المساعي التي تتنكر للحقائق، وبها نكون قد أثبتنا بالدليل المادي القاطع الذي يخرس بعض الماديين من أبناء الاستشراق الغربي.
فما مدى صحة تلك المخطوطات؟ وكيف نثبت صحتها؟ وما هي دلالاتها؟
يتّبع.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست