لا يكفي أن يولد الإنسان بيولوجيًا (شكليًا) حتى يدخل التاريخ، هناك شكل آخر من أشكال المخاض الاجتماعي، هذا المخاض هو ما يدخل الإنسان فعليًا إلى التاريخ ويقوم بتحديد (مضمونه) كفاعل في العملية التاريخية، كما يحدد موقعه الاجتماعي ووعيه الطبقي، بل إنه يخلق أمام حواسه (مصفاةً) شديدة التعقيد تقوم مع الوقت بعمل انتقاء إجباري لكل ما يدخل إلى عقله عبرها، وكذلك ما يقوم بالتعبير به عن ذاته من خلالها، وهذا المخاض هو كل ما يتلقاه خلال فترات عمره الأولى من (لغة / معرفة)، وما يخوضه بعد ذلك من تجارب على امتداد عمره القصير.
والبشر وفقًا لماركس رغم أن وجودهم سابق على وعيهم إلا أنه يرى أن ما يمكن تمييزهم به عن الحيوانات هو هذا الوعي؛ فالإنسان لا يقوم بردود أفعال تجاه ما ومن حوله بشكل غريزي وفقط، ولكنه يقوم باتخاذ المبادرات والقيام بأفعال تجاه ما ومن حوله والبدء في تغييرها تبعًا لإرادته ودرجة وعيه ووضعه الطبقي، التي تتقاطع وتتداخل مع إرادة ودرجة وعي والوضع الطبقي لبشر آخرين.. وهكذا، فالبشر عندما يغيرون الظروف التي يعيشون فيها، فهم يغيرون من أنفسهم أيضًا وهذا هو جوهر «عملية الجدل التاريخي الماركسية»، «الجدل» الذي يضع (الفعل / الإرادة) الإنسانية في المسافة بين الوجود والوعي، بين الموضوعي والذاتي، بين الشكل والمضمون.
ولأن الوعي السائد هو وعي الطبقة السائدة، يعتبر الفن قمة هذا التعبير عن هذه (الفعل / الإرادة) على المستوى الفردي، إن الفن الحقيقي هو ثورة فردية على كل أشكال الوعي السائد، ولكنه عملية تتم وفقًا لخصوصية الفن المتعلق بطبيعة أدواته وموضوعاته باعتباره انعكاس مكثف للواقع عبر عقل الفنان الواعي بذاته و بواقعه الاجتماعي، وكذا لديه أدواته وقوانينه الفنية الخاصة في الرؤية والتعبير، يقول تروتسكي: «الإبداع الفني تغيير وتحويل للواقع وفقًا لقوانين الفن الخاصة»، فالفن هو تعبير عن كل التطورات المتعلقة بالشخصية الإنسانية كالحياة والحب والموت والأحلام… إلخ.
وهذا ما يثير الجدل الدائم حول جدلية الشكل والمضمون في الأدب والفن وهل الفن للفن «الشكل على حساب المضمون»؟ أم أن الفن الحقيقي هو الفن الهادف «المضمون على حساب الشكل»؟ أم أن الشكل والمضمون «وجهان لنفس العملة»؟ وما هي حدود الفنان التي لا يجب تجاوزها؟
وفقًا لرأسمالية السوق التي هي في التحليل الأخير ديكتاتورية للبرجوازية، تقدم شكلية الفن على مضمونه، وتضع للفن والإبداع حدودًا غير مسموح بتخطيها في محاولة لترويضه سياسيًا، هذه الحدود هي التحريض الصريح على المساس بالقيم المؤسسة للمجتمع الرأسمالي، كما أن الرأسمالية تقوم بدمج الفنون والإبداع ومنتجيه ضمن المنظومة واستخدامهم كسلعة أو في الترويج لسلعة، بحجة قوانين السوق والعرض والطلب والسعي من أجل الربح، وهو ما يرجح كفة مدرسة الفن للفن التي تقوم بتفريغ الفن من أي مضمون ثوري حقيقي وراديكالي، وفي نفس السياق تقوم بعملية فرز وإعادة دمج لكل فنان وتخيره بين العزلة أو الاندماج والعمل ضمن هذا الإطار البروكسي الضابط ولو كان هذا الإطار غير منظور ولا مسطور، كما أنها تستثني قطاعات كبيرة من الطبقة العاملة من هذه العملية الإبداعية.
أما رأسمالية الدولة التي أسست لها بيروقراطية ستالين، وانتشرت بعد ذلك تنويعاتها العسكرية والطبقية في العديد من دول العالم، فهي ترفع شعار «الفن الهادف»، في محاولة لحصر الفن في المضمون السياسي الفج والإصرار على ضرورة خدمة الفن لقضية سياسية مباشرة واستخدامه في الترويج لشعاراتها الجوفاء حول الوطن والوطنية في المطلق، لتبرير ممارساتها القمعية والاستبدادية، تحت لافتات حماية أخلاقيات المجتمع أو الحرب على الثورة المضادة أو حماية الوطن من المؤامرات الخارجية والفوضى، وبالتالي عمل فرز وإعادة دمج لكل منتَج فني وكل منتِج فني وتخييره ما بين القمع أو الطاعة الكاملة ووفقًا لإطار بروكسي ضابط ومسطور بلوح النظام المحفوظ.
مع سقوط الاتحاد السوفيتي، وبالتالي تهاوي حالة الاستقطاب العالمي صار هناك اندفاع أكثر من قبل حكومات الدول الرأسمالية نحو مزيد من التضييق على الحريات وذلك لتمرير سياسات الليبرالية الجديدة، كما ضعفت قبضة رأسمالية الدولة القمعية قليلًا في الشرق مع هزيمة نموذج الاتحاد السوفيتي والاندفاع نحو تطبيق سياسات الليبرالية الجديدة، مما أعطى بعض الحرية في الشرق في مقابل مسحة يمينية متطرفة في الغرب الرأسمالي بعد زوال الخطر الشيوعي، وانعكس هذا في بعض الانفتاح على الإبداع والفنون «مبارك وبوش كأمثلة».
ولكن مع اندلاع ثورات الربيع العربي ثم فشلها، اندفع العالم كله نحو اليمين وصار الهجوم على الإبداع وحرية الصحافة في الغرب عاديًا كما صارت قبضة الأمن في الشرق أقوى مما مضى وهو ما انعكس على الفن والإبداع «السيسي وترامب كأمثلة».
بالطبع هناك على طول التاريخ بعض الحالات الفنية الاستثنائية التي شكلت انفلات عن هذه القواعد التي يفرضها النظام، وتوقف هذا على مدى حدة الاستقطاب والاستنفار الطبقي لحظة إنتاج هذا العمل الفني، ولكن تظل سيطرة النظام عبر البروكسية هي القاعدة ويظل الفن الأصيل الثوري هو الاستثناء.
مبكرًا جدًا اتخذ تروتسكي موقفًا معاديًا ومحاربًا لتوجه ستالين للهيمنة المتوحشة على أشكال الإنتاج الثقافي تحت شعار «الفن الهادف»، وأكد تروتسكي أنه لو كان على الثورة أن تبني نظامًا اشتراكيًا ديمقراطيًا ذا سيطرة مركزية من أجل التطوير الأفضل لقوى الإنتاج المادي، فإن تطوير الخلق الثقافي يحتاج لإنشاء نظام فوضوي قائم على الحرية الفردية من البداية. لا سلطة، لا توجيه، لا أدنى أثر للأوامر الفوقية. فقط على أساس التعاون الودي، بلا قيود خارجية، سيكون من الممكن للباحثين والفنانين أن ينجزوا مهامهم، التي ستكون أوسع مدى من أي وقت مضى في التاريخ، كما قال تروتسكي أيضا في بيان نحو (فن ثوري حر) «إننا نؤمن أن النزعات الجمالية والفلسفية والسياسية الأشد تنوعًا تستطيع أن تجد هنا أساسًا مشتركًا. يستطيع الماركسيون هنا أن يسيروا جنبًا إلى جنب مع الفوضويين، بشرط أن يرفض الطرفان بلا مهادنة الروح الرقابية البوليسية الرجعية».
كما كان رأي لينين واضحًا وقاطعًا في معارضة أي شكل من أشكال الرقابة الفنية على الإنتاج الأدبي، مؤكدًا على الفارق بين عملية الخلق الأدبي وبين البيانات الحزبية والمقالات والمساجلات. وقد كتب عام 1905 يقول: «إن كل فنان، كل من يعتبر نفسه فنانًا، له الحق في أن يبدع بحرية تامة، تبعًا لنماذجه وتصوراته، بغض النظر عن أي شيء». وكانت نشأة المدرسة الدادائية بالأساس لمناهضة الحرب العالمية الأولى وال
ثورة على الوعي البرجوازي السائد على مستوى الشكل والمضمون، كما أن السريالية كانت حركة اشتراكية المنشأ والتطور عن الدادائية وكان مؤسسها أندريه بريتون رفيقًا لتروتسكي ووقع معه على بيان «نحو فن ثوري حر»، كما أن كاندنسكي مؤسس المدرسة الفنية التجريدية قد التحق بالثورة الروسية في سنواتها الأولى.
إن الشكل والمضمون وجهان لنفس العملية الإبداعية والفنية لا يمكن تقديم أحدهما على الآخر فهما مجدولان في نسيج واحد بلا انفصام، كما أن التناقض الحقيقي هو التناقض بين الرأسمالية بكل أشكالها وبين حرية الإبداع، فقد لا يكون لدى كل البشر القدرة على الإبداع ولكن من الممكن أن يكون أي فرد مبدعًا أيًا كان موقعه الطبقي، لو توفرت له الشروط الموضوعية، التي تمكنه من تحقيق ذلك والوسيلة الوحيدة لاكتشاف وتقييم هذا هي العدالة الموضوعية، وفقًا لهذا يكون العائق الأساسي أمامها هو مدى التفاوت في صعوبة الشروط الموضوعية الناتج عن التفاوت الطبقي داخل الهرم الرأسمالي القائم على الاستغلال من ناحية، وطبيعة رأسمالية الدولة البيروقراطية التي تضع قيودًا صارمة على الإبداع بحجة «الفن الهادف» من ناحية أخرى.
وفقًا لهذا فما علينا كثوريين هو الوقوف الدائم في الخندق المعادي للرأسمالية، وتشجيع المبادرة الفردية والإبداع، والدفاع عن عملية الجدل والحوار المجتمعي الدائم الذي هو جوهر عملية التغيير والإبداع مع السعي لإتاحة الفرص للجميع للتقدم في كل المجالات بعدالة ومساواة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست