إن من أهم مدارج الارتقاء الحضاري أن تتوفر الدولة على أفراد متعلمين وشباب مثقفين، ولا يمكنك أن تحقق تقدمًا سواء أكان ماديًّا أم معنويًّا، دون أن تبني الإنسان بناء معرفيًّا ومنهجيًّا، فمن هنا نتساءل جميعًا عن الغاية من دراسة على الأقل 12 سنة في المدرسة، ثم نضيف إليها بعد البكالوريا أو مرحلة الثانوية العامة ثلاث أو خمس أو سبع أو 10 سنوات من الدراسة التخصصية في مجال معين؟ وهل الدراسة وسيلة أم غاية؟

من أهم مقاصد التعليم والدراسة النظامية – بشكل عام- أن يتمكن الإنسان من بناء ذاته، وأن يكتسب مهارات تمكنه من مواجهة أعباء الحياة، فلا معنى أن تقضي أكثر من 20 سنة في الدراسة الأكاديمية وأنت لا تعرف طريقة تسيير حياتك، ولا كيف تربي أولادك، ولا كيف تتعامل مع شريك(ة) حياتك، ومن هنا قد نجد أشخاصًا فشلوا في دراستهم فشلًا ذريعًا لكنهم نجحوا نسبيًّا في حياتهم العملية، وهذا أمر يرجع بشكل كبير إلى الوعي، إلا أن هذا الوعي يكون ناقصًا إذا كان الإنسان ذا مستوى ثقافي ودراسي متدن، وفي هذا السياق يقول ألبرت أينشتاين: التعليم المدرسي سيجلب لك وظيفة، أما التعليم الذاتي سيجلب لك عقلًا.

والتعليم المدرسي في بلداننا قد يجلب لك وظيفة وقد لا يجلبها، لذلك اسع إلى تحصيل العقل أولًا فهو مفتاح كل شيء، فمن هنا كان لزامًا أن نتحرر من التعليم الخبزاوي- إن صح التعبير- هذا الأخير الذي يختزل وظيفة التعليم في تحصيل لقمة العيش، وهو في الحقيقة له غايات كبيرة لا تختزل في مجرد تحصيل مهنة أو ارتقاء في السلم الوظيفي.

إن هذا الفصل الخطير بين الدراسة النظامية وقراءة الكتب، أخرج لنا جيلًا من النسخ المكررة إذ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى، فبعضهم تنتهي علاقته بشيء اسمه كتاب وقراءة بمجرد أن يتخرج ويحصل على شهادته الجامعية، أو عند حصوله على وظيفة، ومع مرور الزمن وتعاقب الأيام يرجع المسكين كأنه لم يجلس قط في مقعد الدراسة، وفي مقابل هذا نرصد أشخاصًا لم تسعفهم الظروف لإكمال دراستهم لكنهم يتمتعون بمستوى فكري محترم يخول لهم تدبير شؤونهم الحياتية بطريقة حكيمة.

ولهذا فالتعليم لم يوضع من أجل تحقيق رغيف خبز، رغم أنه من مقاصده، لكنه وضع لبناء الإنسان القادر على أن يكون فاعلًا في مجتمعه وأسرته، وقادرًا على إيجاد الحلول للمشكلات الإنسانية والمعضلات الكونية، وهذه مسألة فقها الغرب بشكل دقيق، فكانت نتيجة ذلك حضارة مادية باهرة هيمنت على العالم بأسره، بإنتاجاتها المادية، وتطور سقفها العلمي، وكل هذا لن يكون له وجود لو فكر جميع من ولج المدرسة بالطريقة التي يفكر بها الإنسان العربي، ألا وهي تحصيل وظيفة واستقرار مادي.

إن مسألة الأرزاق مسألة مكتوبة مقسومة من لدن حكيم خبير، والرزق ينال بطرق متعددة ،لكن المعرفة لا تنال إلا بدفن نفسك وسط الكتب، وهو باختصار فن القراءة والمطالعة، وقد تكون الدراسة بابًا واحدًا من أبواب هذا الرزق، لكن المؤكد أنه ليس الوحيد والأوحد.

والناظر إلى الناجحين والمؤثرين في عالمنا المعاصر، كستيف جوبز، ومارك زوكربيرج، وبيل غيتس، وجوردان بيترسون وغيرهم، نجد أن القاسم المشترك بينهم هو المداومة على القراءة والتصفح اليومي للكتب؛ لأنهم علموا ببساطة أن المعرفة لا تقدر بثمن، وأنها قوة ترتقي بصاحبها في مدارج السمو وتحقيق الذات.

فالدراسة غاية وليست وسيلة، فمن اتخذها وسيلة وجعل الوظيفة هي الغاية يكون فردًا غير فعال في مجتمعه، ومن صور ذلك أن كليات الطب في البلدان العربية يتخرج منها كل سنة أفواج من الحرفيين في مهنة الطب، لا علماء أو باحثين في الطب يضعون نظريات واكتشافات وبحوثًا علمية للإشكالات الكبرى المطروحة في هذا الميدان، وهذا يرجع بالأساس إلى اتخاذ الدراسة وسيلة لا غاية، وهذا مكمن الخلل والداء عندنا.

إن أمتنا اليوم في حاجة ماسة إلى أفراد متعلمين وممنهجين قادرين على صناعة الفارق وإخراجنا من حالة التخلف المزري، والتعليم هو الأداة التي نستطيع بها إنتاج هذه العقول القادرة على امتلاك المعرفة وإنتاجها، كما أنها قادرة على تحسين المستويين الثقافي والمعيشي.

وفي الختام نتوصل إلى أن الإنسان الذي يمتلك نظرة كونية متكاملة، هو من يهدف من خلال دراسته إلى خلق رقم صعب يحسب له ألف حساب، بامتلاكه المعارف والمناهج والمهارات التي تخول له أن يعيش حياة تليق به كإنسان عاقل مستخلف في الأرض، فلا قيمة للحياة بدون علم ومعرفة وحكمة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد