إن كتاب الحرية – لإيزايا بيرلن – عرض مئات النظرات عن الحرية عشرات العقائد، الثابت والمقبول والمرفوض أننا نرى أن كل فكر وتيار قام بتفصيل مفهوم للحرية؛ ليقبع مرادفًا لمآربه. إن الحرية هنا عملت بعمل الدعاية، إنها تلك الحلوى التي تقدمها كل التيارات الفلسفية لروادها ومريديها، كل لديه حرية خاصة، حرية تجذب الجماهير.
إيتان دي لابوسيه استشهد بقول أوليس في تعزيز الجنود بقول (كثرة الأمراء سوء، كفى سيد واحد، ملك واحد) في أن خضوع الإنسان لسيد واحد أقل بؤسًا ومدعاة للعبودية من عدة أسياد، فكلما كثر عدد أصحاب السلطة زاد التحكم، وقلت الحرية، ولكن هنا إيتان ينظر للعبودية على أنها عدم قدرة الإنسان أن يصبح صاحب الكلمة الأولى في حياته.
في الحرية لـ«جون ستيورت ميل»، فيلسوف الليبرالية يدعو للحرية المطلقة، امتلك كل أمورك يا فتى، ولكن لا تتعدَ على حق الغير في الحرية، إن «ميل» يعرض الحرية من جهة القدر الذي يستطيع الإنسان التحكم في حياته بسببه، وبالرغم من كون «ميل» رومانسي النزعة، فهو خرج من الفردانية القديمة إلى الجمعية، إلا أنه مؤيد لفكرة السيد المسيح، وأن مملكة الرب ليست في العالم، بل في داخلنا، أي أن الحرية ممتدة إلى جذر الإنسان، وفي الواقع لم يكن هذا رأي المسيح فقط، بل إن إبيكتيوتوس الفيلسوف الرواقي، وسكرتير نيرون، وعبد أفروديت عشيقة نيرون، والذي طرد مع طرد الفلاسفة من إيطاليا، وأكمل حياته في روما، وقد أثرت مذاهبه في الفلسفة الكنسية فترة طويلة.
أنا أرى أن المسيحية كانت تحتاج لطمأنة المحتاجين، إن المسيحية انتشرت بين أوساط الضعفاء والعبيد بسبب ما تحمله لهم من وعود لحياة أخرى، ففي كتاب الحرية لإيزنيان أرجع سبب التدين إلى أن طموح المرء ومتطلباته أكثر من أدواته الحياتية فيلجأ للقدرة الإعجازية للرب، وبالتالي فإن التدين ينتشر بشكل أسرع بين المحتاجين، وأن التقيد الميتافيزيقي أهم من القانوني. يقول منشسكو إن الأمور التي يحرمها الشرف تزيد مراعاة تحريمها حين لا يتدخل القانون في ذلك.
يقول ماركوس أوريليوكس في التأملات (قبل كل شيء لا تبتئس. فكل شيء يمضي وفقًا لطبيعة العالم. وبعد برهة ستكون لا شيء وفي لا مكان، مثلما هو الآن هاريانوس وأوغسطن. انصرف إلى عملك الذي تؤديه وانظر ماذا يكون. وتذكر أن واجبك أن تكون رجلًا صالحًا وتذكر ما يقتضيه ذلك ثم امضِ إلى عملك لا تلوي على شيء. وتحدث بما تراه الأصوب. على أن تفعل ذلك دائمًا برفق وبغير رياء). هنا نرى الدعوة الواضحة، لأن الإنسان مجبر غير محرر وأن الرابط الأخلاقي هو القيد الذي لا يمكن قطعه وأنا أرى أن المسيحية أوردت الجبر والحرية الداخلية لتتماشى مع عصرها.
وبالتالي كان الوعد بالقيم واستخدام الحرية في إعلام الأفراد هو نشرًا سريعًا لبعض الأديان القديمة البوذية المانوية المسيحية على سبيل المثال من هنا سنعرض لمبدأ الحرية الحتمية وهو مبدأ أنا أعتبره ذكاء بينًا والذي يعتقد أن العالم قائم على بعض مصادفات وأن الإرادة الإنسانية تخضع لكل تلك المصادفات.
إننا هنا قد دخلنا إلى مسألة هل الإنسان مجبر أم مخير، ابن رشد قال إن الحتمية هي قوانين الطبيعة التي تتحكم في الإنسان ولكن مع هذا الإنسان حر بحياته، المعتزلة أفادوا الحرية المطلقة للإنسان على تصرفاته وأن إرادته كاملة وقد أورد كانط هذا الرأي بشكل مختلف حيث جعل سقف الحريات الأخلاق ونجد تقاربًا واضحًا بين جون ستيوت ميل وكانط ولكن لكانط رأيًا ظريفًا هو أننا أحرار إذا نظرنا لذواتنا المتعالية على الزمن وأننا مجبرون إذا نظرنا لذاتنا المتعالية بالزمن ومجبرون إذا نظرنا لتحققها في الزمان، وهو يعني أن الحرية تختلف حسب نظرة الشخص.
إسبينوزا تحدث على أن الناس يعتقدون بحريتهم ولكن في الحقيقة هم لا ينظرون إلى الأسباب التي تدفعهم إلى تصرفاتهم، الإنسان عبد للسببية.
إن شوبنهاور يرى أن الحرية ترجع إلى إرادة، أنا أريد إذًا أنا سأفعل الفكرة كلها فيما يريد الإنسان أن يفعله في حياته.
وهذا ما يورده نيتشة أصلًا في إنجيله الخامس هكذا تكلم زرادشت «حرًا تسمي نفسك، أريد أن أسمع هاجسك المسيطر، لا أن تقول لي بأنك قد خلعت النير عن كاهلك، وهل أنت ممن يستحق أن يخلع النير عن كاهله، لأنهم كثر أولئك الذين فقدوا أي قيمة لهم عندما تحرروا من عبوديتهم». فهو يرى أن الإنسان يستطيع أن يكون حرًا وعبدًا، والأحرار (الإنسان الأعلى) هم من يقودون البشرية نحو المستقبل والازدهار.
نرى أن إيميل سيوران دعا إلى التخلي عن الدعاية بالحرية ونبذها حيث استشهد في كتابة تاريخ ويوتوبيا على أن كل النجاحات العالمية التي حصلت على مر العصور جاءت في أوقات كانت بها حكومات مستبدة.

أما عن نظري في الحرية

فإنها مختلفة نوعًا ما عنهم، يستعرض ويل ديورنت في كتابه المهم مباهج الفلسفة تاريخ الحرية على أنها كانت نوعًا من أنواع الدعاية التي استخدمتها السلطات المختلفة للسيادة على شعوبها.
في القديم قال سقراط إلى لارستيبوس (إذا كنت تظن من الأصوب حين تعيش بين الناس ألا تحكم أو تحكم، فإني أظن أنك سترى سريعًا كيف يتعلم الأقوياء معاملة الضعفاء معاملة العبيد).
وهنا أتت الديمقراطية لتساوي بين الناس، على حسب ويل ديورنت فإن الديمقراطية نشأت كما قال منتسكيو على الفضيلة بالمال والبارود. ذلك أن المدافع والبنادق دكت القلاع الإقطاعية، لقد نادى رسلو وفولتير بالحرية والمساواة وقد قامت على هذه المبادئ والآن هل العالم يعيش المساواة يقول ديورنت العظيم أيضًا إن أعمق أساس لما يسود حياتنا السياسية من نفاق وفساد هو هذا الاحتفاء بالمساواة والحرية الاقتصاديتين.
في كتابه المدهش سلطة الاتصال يقوم مانويل كاستلز بالحديث عن المهمين وهو ذلك الشخص الذي يتكون عادة من مجموعة من المستثمرين تسيطر على الإعلام وتستطيع بسيطرتها عليه وهو أكبر سلطة في واقعنا الحالي أن تحرك الحكومات، ويتحدث جوستاف لوبون في سيكولوجية الجماهير عن الأدوات التي يمكن بها تسيير وتحريك الناس لينفذوا أهواءك أنت وهنا نرى أن الإنسان لم يعد يملك ذاته أصلًا.
إن فكرة المجتمع معاكسة لفكرة الحرية، إن البشر كانوا في البرية، كل شخص حر بما لن يؤثر على شخص آخر والآن وقد اجتمعوا وأصبحوا كيانًا واحدًا تحكمه فئة من الناس اختاروها بموجب عقد اجتماعي وهو الدستور، الآن أنت أيها الفرد هل يمكنك ممارسة أي شيء في حياتك بدون أن تؤثر على حرية باقي الأفراد حولك ودون أن تتقيد بهم؟ إن كل فعل يصبح ضرورة للبقاء أحياء بمجرد التخطيط لعمله فهو يخرج عن حيز الاختيارية وهنا نرجع إلى فكرة أخرى أن الإنسان غير مسيطر على ذاته وغير مسيطر على وعيه وذلك عن طريق أن الوعي الإنساني يتكون من التعليم والإعلام والثقافة المجتمعية، وحين تصبح هذه الثلاثة بيد المهيمن على السلطة صاحب المال ويورد خيارًا محددًا يكون اختيار الإنسان قائمًا عليه وهو لا يجعل الإنسان حرًا في رأيه.
أرى أن الحرية العدالة الأخلاق الفن الدين هي صيغ ميتافيزيقية تعبر عن تلك الأدوات التي يستخدمها الإنسان ليستطيع استكمال حياته، وهي أدوات لا يوجد لها قاعدة واحدة أو دليل واحد أو صورة واحدة فتختلف رؤيتها من فرد إلى آخر حسب تكوين وعيه الذي تسبب به الإعلام والتعليم والثقافة المجتمعية.
وهنا تصبح الحرية وهمًا يقصد به إعطاء مقدار من الجمال لمنظور الإنسان للحياة يهدف إلى التحكم به.

وهم الحرية المطلقة

أبدًا ولا لأي شخص توافرت الحرية المطلقة، لقد صور القدماء الآلهة الكبرى على أنها توحدت ضرورتها المطلقة مع قدرتها الروحية، لقد صوروها كالبشر ولكن لا يوجد مبرر لها للبقاء هكذا زيوس كان مخيرًا دائمًا وإذا نظرنا إلى الآلهة القديمة وحاولنا إيجاد سبب لجعلها تحكم العالم فسوف نصل إلى حقيقة واحدة وهي التسلية، ورغم ذلك لم تكن حريتها مطلقة، لقد قيدت زيوس أهواءه، لقد كان زيوس دائمًا يميل لطرف دون الآخر ويمكننا أن نرى تلك الصورة أحادية وهو ما جعل زيوس يقترب من النمط الأحادي في التفكير وهنا نرى القيد على حريته.
في المسيحية حين توحد الرب مع المسيح فقد سرت عليه القوانين البشرية العادية وبالتالي فلم يكن حرًا في ذلك الوقت وهو ما أفقده الحرية الكاملة، أما في الإسلام فنرى الحديث القدسي (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظلموا) وبانتفاء صفة الكذب على ذات الله لأنها من النواقص فنحن نرى أن الله قام بوضع شرط لتقييد حكمه.
ومن هنا سنرى أن فكرة الحرية المطلقة وهم أصلًا ومن ناحية أخرى فالحرية بحد ذاتها لا تطبق وغير حقيقية وهذا ما أراه لها.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد