إسلام محمد زيدان - باحث وكاتب

خلال قراءات في أعمال أدبية عن علوم النفس والاجتماع، كنت أرى أن لكل إنسان الحق في مساحة من المكان، والزمان، مسافة يبتعد بها بالقدر الكافي عن التفاعلات بين البشر، بغض النظر إن كانوا ذوي قربى، أو غرباء. مساحة يمارس فيها ما يريد دون سؤال ملح عما يفعل. مما زاد تساؤلاتي وبحثي عن الخصوصية في حياتنا، مواقف حياتية تدور أمام أنظارنا بالطريق أو في المواصلات العامة، كمشهد الشخص الذي يجاورك في الحافلة ويدفع عينيه بجريدتك، يقرأ ما تقرأ، بل يزيد الأمر أحيانًا إلى التطلع، بينما تقوم بالتصفح في هاتفك الذكي، في الوقت نفسه سنحت لي الفرصة ملاحظة سلوك لسائحين أجانب، فهم على النقيض تمامًا، فلا يتدخل أحدهم في شئون جاره دون دعوة من صاحب الشأن ودون إذنه.. ألهذا علاقة بكوننا مجتمعات شرقية نحب حرارة التفاعلات الاجتماعية، أم لأن هؤلاء قد وصلوا لما قد يصعب علينا فعله، وبصيغة أخرى؛ ما الذي يدفع الناس إلى الفضول واقتحام حياة الآخرين؟

الفضول هو أول بوادر التعلم والبحث(1) مقولةٌ أثبتت صحتها في البحث عن الحقيقة والمعرفة والاكتشافات العلمية في الفيزياء والكيمياء وعلوم الأحياء وعالم الاكتشافات الكونية؛ غير أنها فشلت في عالم التفاعلات البشرية والبحث عن الحقائق النفسية والاجتماعية. فليس هناك من يحب أن يطّلع الناسُ على أسراره، كذلك ليست صورة الزوج وهو يبحث في حقيبة زوجته صورة مُرضية، وما عبثُ الزوجة في ملابس زوجها بحثًا عن دليل أو إشارة تدينه أمر يجعل الزوج مسرورًا. ولا نقول إنها الغيرة؛ لأن الغيرةَ انفعالٌ يعكس حالة الحب والخوف من الغياب، أما الفضول في تلك المواقف يعكس الشك وانعدام الثقة، بل يعتبر في تلك الحالة تعديًا صريحًا على الحيز الشخصي للشريك وعدم احترامه.

عرض موقع أكاديمية علم النفس مقالًا عن الحيز الشخصي(2)، فالجهد الذى يبذله الأفراد من أجل الحفاظ علي تنظيم الفراغ الذي يُحيط بأجسامهم يُعد من الأمور المهمة للسلوك الاجتماعي، فكل فرد لديه ما يُسمى بالحيز الشخصي ويشمل الحدود التى تُحيط بجسم الإنسان، ومن الممكن القول: إن الحيز الشخصي يمتد ليكون ماسًا مع الحيز الشخصي للآخر، وبهذا تتواجد التفاعلات الإنسانية والاجتماعية بين البشر.

وهناك قواعد غير منطوقة تُشير إلى أنسب المسافات التي يجب توافرها بين الأفراد، وذلك باختلاف الأصعدة؛ والمجالات الرسمية وغير الرسمية. فالقواعد المُتعلقة أو المُتصلة بإستخدام الفرد للحيز الفراغي تُسمى التقارب. ووجود حيز شخصي وطبيعة التقارب تظهر بوضوح عندما تتعدى على الحيز الشخصي للأخرين. الغالبية من الأفراد يُظهرون مشاعر التوتر والضيق وعادة يتحركون للخلف من أجل الحفاظ على المسافة الشخصية، ومن أجل الحفاظ على الاتزان النفسي المناسب لهذا الإجهاد الواقع عليهم.

تستعرض الباحثة الجزائرية فتيحة بن زروال أنماط الشخصية وعلاقتها بالإجهاد الذي تختلف أشكاله ومصادره، فالإجهاد هو التفاعلات بين مجموعة من العوامل من بيئات مختلفة وبين متغيرات فردية، ينتج عنها استجابات فسيولوجية، نفسية، وسلوكية، وعليها فإن الفرد يقوم بأنشطة معينة ليتكيف مع تلك المؤثرات. أما عن مصادره فالباحثة تصنفها في ثمانية مصادر: طبيعة العمل، عبء العمل، العلاقة برؤساء العمل، العلاقة بزملاء العمل، العلاقات الإجتماعية مع الناس، الحوافز والنمو المهني، مستويات التأهيل المهني، وسائل العمل وطرائقه الفيزيائية(3).

ومن عواقب تلك الإجهادات والتعديات الصريحة على المسافات الشخصية، نشوء الاضطرابات والتحول إلى الاعتلال النفسي مما يستوجب تدخلًا علاجيًا ومباشرة المتخصصين، فخلال مؤتمر الجمعية الجزائرية للطب النفسي نوفمبر (تشرين الثاني) 2007، طرحت دراسة أجريت بالجزائر أن ما لا يقل عن 10% من المواطنيين في حاجة إلى رعاية نفسية، فيما وصل تعداد حالات الاكتئاب إلى حوالى 26%، بينما قدر خبر بجريدة الشروق الجزائرية حالات الانتحار بين رجال الشرطة بمتوسط 10 حالات سنويًا، وذلك جراء اندلاع حالات العنف وعدم الاستقرار وتردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية التي عاشتها البلاد قبيل تلك الفترة (4، 5).

نصت المادة 12 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أنه لا يجوز تعريض أحد للتدخل التعسفي في خصوصياته، شؤونه العائلية، المنزلية أو مراسلاته ولا المساس بشرفه وسمعته، كل الأشخاص لديهم حق حماية القانون لهم ضد تدخلات أو انتهاكات كهذه، وعلى الرغم من أنه لا يوجد قانون منصوص به عالميًا للخصوصية، إلا أن بعض المنظمات تشجع على فرض مفاهيم معينة من قبل البلدان، دخلت مبادئ الخصوصية الأسترالية حيز التنفيذ إلى جانب تغيرات رئيسية للقانون في 12 مارس (آذار) 2014. الدستور البرازيلي أقر بأن الخصوصية حق أساسي من حقوق الإنسان الأساسية، حتى أن الدولة لا يسمح لها بانتهاك البيانات الشخصية، العلاقات الحميمية، الحياة الخاصة، الشرف والسمعة (المادة 5، البند إكس). يخضع قانون الخصوصية الكندي فيدراليًا لقوانين متعددة بما في ذلك الميثاق الكندي للحقوق والحريات وقانون الخصوصية. المادة 8 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان تضمن الحق في احترام الحياة الخاصة والحياة العائلية ومنزل الفرد ومراسلاته.

ويطلب الاتحاد الأوروبي من جميع دول الأعضاء إصدار تشريعات لضمان حقوق المواطنين في الخصوصية. الدستور الولايات المتحدة لا يتضمن صراحة الحق في الخصوصية، لكن الخصوصية الفردية والمكانية محفوظتين ضمنيًا في الدستور تحت التعديل الرابع. ومن حيث مؤشر الخصوصية، قام مركز معلومات الخصوصية الإلكترونية بوضع كل من البرازيل، أستراليا، اليابان وجنوب أفريقيا في مستوى أعلى للخصوصية في مؤشر الخصوصية (حوالي 2.2)، ووضع في الجزء السفلي من القائمة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة (حوالي 1.4) (6).

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

تحميل المزيد