من شروط العمل بالرواية ألا تكون مناقضة لروح القرآن والعدل الإلهي، وإذا ما خالفَ صريحُها هذا الشرط لمْ يحقّ لأيِّ كان تأويلُها بما لمْ تحتمل تحت أي مسميات تضليلية، ومِن أحد هذه المسميّات ما يقال إنّه (متفق عليه)، ناهيك عن كون المتفق عليه عند أهل الحديث لا يكونُ متفقًا عليه بالضرورة بين جميع مذاهب المسلمين.


في هذا المقال سنتطرق إلى نموذجٍ من الروايات التي لا تقبل النقاش عند أهل الحديث، وسنرى كيف يتم التلاعب بحروف الرواية وسياقها لفرض صحة متنها عنوةً لمجرد كونِها مرويةً في الصحيحين، سنبين أن تأويل الشراح في تصحيح الرواية أفسدُ من الرواية ذاتها، أين يتم القفز فوق أبجديات اللغة والمنطق لتصحيح روايةٍ خالفت القرءان صراحةً.

الرواية عن عبد الله أن رسول الله قال: [ إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع: (برزقه وأجله وشقي أو سعيد)، فوالله إن أحدكم أو الرجل يعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ].
متفق عليه.

نص الرواية صريح وجلي ويناقض القرءان في عديد من آياته التي تؤكد أن الجزاء إنما هو نتيجة لمحصلة أعمال، وليس لخواتيمها:
يقول تعالى: [ فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية، وأما من خفت موازينه فأمه هاوية ]. 7 – 8 الزلزلة.

أيضًا: [ ووُضِع الكتابُ فترى المجرمين مشفقين ممّا فيه ويقولون مالِ هذا الكتابِ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، ووجدوا ما عمِلوا حاضرًا ولا يظلمُ ربُّك أحدًا ] 49 الكهف.

فالأعمالُ كلُّ الأعمالِ ستُعرَضُ على الميزان يومَ القيامة، صغيرِها وكبيرِها، صالحِها وسيّئٍها، وما تقرُّه الروايةُ أعلاه مناقضٌ لصريح القرءان ومسيءٌ للعدالة الإلهية بشكل واضحٍ وجليّ، وهذا ممّا يستشكلُ على أئمّة أهل السّنّة وأهل الحديث خاصّة عند كل حالةٍ مماثلة، إذ أنّ الحديث المتّفق عليه – بحسبِهِم – يبلُغُ درجاتٍ مِن الصّحّة بنحوٍ يصعُبُ أو يستحيلُ ردُّه، فيكونُ التعاملُ معهُ إمّا بنسخِ الآيات التي يناقضها الحديث، وإمّا بتأويلِها أو تأويل الحديث، وهي الحالة التي ينطبق عليها هذا الحديث، وسنأخذ جزءًا من كلام ابن القيم مِن كتاب الفوائد في تأويل هذه الرواية نموذجًا، وهو تأويلٌ يرسخُ عليه غالبية المشايخ، خاصة السلفية:

يقول: [ وأما كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فإن هذا عمل أهل الجنة فيما يظهر للناس، ولو كان عملا صالحا مقبولا للجنة قد أحبه الله ورضيه لم يبطله عليه ].. انتهى.

لقد استدل ابن القيم على هذا التأويل بما رواه البخاري في موضع آخر عن الرسول أنه قال: [ إن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإنه لمِن أهل النار، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة ].

أي أن العمل المقصود هناك هو غير الخالص لله، أو الذي فيه رياء أو نفاق، وسنرد على هذا التأويل بالنقاط التالية:

1 – الرواية تقول: [ يعمل بعمل أهل الجنة ]، والنفاق ليس عملا من عمل أهل الجنة، والقول بأن المقصود ما يبدو للناس أنه عمل صالح وهو ليس بذلك ( لرياء أو مصلحة ) إنما هو إضافة من كيس ابن القيم وصرفٌ للمقصود من الرواية إلى مقصد آخر لا وجود له ولا بأي شكل من الأشكال.

2 – الرواية تقول: [ يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع ]، أي أن الإنسان هنا يعمل فعلا بعمل أهل الجنة ولا ينافق، فالنفاق لا يقرّب أحدًا من الجنة ولا يضيف لرصيد صاحبه شيئًا يرتقي به إليها، فكيف إذن يكون المقصود من هذا العمل هو العمل الذي لا إخلاص فيه كما ذهب ابن القيم؟

3 – إذا كان المقصود من العامل بعمل أهل الجنة هو العمل غير الخالص لله، فما تأويل العامل بعمل أهل النار؟ ولماذا أوّل المأوّلون المقصود من العامل بعمل أهل الجنة على أنه رياء ونفاق وقد سكتوا وتجاوزوا عن تأويل العامل بعمل أهل النار والنص في الرواية يبدأ به أوّلا؟

4 – الرواية تذكر صراحةً سبب دخول العامل بعمل أهل الجنة إلى النار: [ فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ]: لا علاقة لتأويل ابن القيم بما تقرّره الرواية هنا، فالعامل هنا انتقل من عمل أهل الجنة إلى عمل أهل النار بسبب الكتاب المحتوم الذي سبق وأن أدرجَه شقيّا كما جاء في نص الرواية، وشرْحُ ابن القيم هنا ترك المقصود الذي تذكره الرواية صراحةً: [ فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار ] ليأتي بمقصودٍ آخر مِن روايةٍ أخرى.

5 – دخول العامل بعمل أهل الجنة إلى النار بعد اقترابه الشديد من الجنة ناتج عن تحوُّل من العمل الصالح إلى العمل السيء – كما تقول الرواية – وليس ناتجًا عن كُنه عمله ذاته بين ظاهره وبين ما هو عليه فعلا – كما زعم ابن القيم – ولو كان الأمر كما ادّعى، فما معنى قوله: [ يعمل بعمل أهل الجنة، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار ]؟

الرواية إذًا تتحدث عن عمَلَين متناقضين، لا عن عملٍ يحمِل التناقض بين ظاهره وباطنه كما تكلّفَت شروحات المؤوّلين.

6 – الرواية من أوّلها إلى آخرها موضوعٌ كامل: [ إنّ أحدَكُم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا … فوالله إنّ أحدكم يعمل بعمل أهل النار … ] يتحدث الشطر الأول منها عن ” قدر ” الإنسان بالمعطيات التي نصّت عليها الرواية: ( الرزق والأجل وشقي كان أم سعيدا ) ليقوم الشطر الأخير منها ليتحدث عن كيفية تحقق هذا القَدَر على أرض الواقع، وكلمة فواللهِ التي تربط بين الشطرين تؤكّد ذلك، وهذا يستبعِد تأويل ابن القيّم للعمَل المقصود في الرواية على أنه عملٌ يحمل الوجهَين في ذاته، وهو تأويلٌ يجعلُ الرواية ذات موضوعين مختلفين ومتصّلَين بطريقة لا معنى لها.

الرواية إذًا كلها عن القَدَر ويتماشى مع تبويب البخاري لها: كتاب القدر – باب في القدر، ناهيك عن تبويبات أخرى لا تتعارض.

فَنصُّ الرواية إذن يزعم أن منزلة الإنسان: شقيًّا كان أم سعيدًا.. لا تعتمد على ميزان أعماله مِن لحظة ولادته إلى وفاته، وإنما على خاتمة أعماله فقط، وهي خاتمة لا دخلَ له فيها مادام الشقاء والسعادة مُقَدّرَين سلفًا، واقرأ مجدّدًا ما تنطق به الرواية: [ … شقيّ أو سعيد، فوالله إن أحدكم أو الرجل يعمل بعمل أهل النار حتى يكون ما بينه وبينها ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل الجنة فيدخلها ]، الحديث عن إنسان يعمل بعمل أهل النار زمنًا طويلًا، ثم يعمل بعمل أهل الجنة في النهاية جاء بعد قوله [ شقي أو سعيد ]، وهذا لا يعني إلا أن السعادة المقدّرة سلفًا في الكتاب لابد لها أن تتحقق واقعًا، فيكون من البدّ أن يتحوّل العمل السيء إلى عمل صالح يحقق ما كتبه الله سلفًا، وكلمة (فوالله) في قوله: [ … شقي وسعيد فوالله إن أحدكم يعمل بعمل … ] يؤكد على أن الحديث هنا عن تبعات الشقاء والسعادة المُقَدّرتين سلفًا، وتأويل ابن القيم للرواية يُجَرٍّدُها من كلّ سياقها الذي جاءت به.

ما أريد قوله من هذا المقال، إنّنا نرفضُ التّأويلَ الذي يفرٍضُ التَّوفيقَ بين نصّيْن باستماتةٍ باطلة، وأنّ المتفق عليه إنما هو ما صادفَ وَ رواهُ الشيخان فقط، فلا يعني أنه غيرُ قابلٍ للرّدّ ما حضر البرهانُ ولا شيئًا غيرَ ذلك، فكيف إذا كان المتّفقُ عليه ظنّيَّ الثبوتِ، كغيره من الروايات والقرءانُ قطعيٌّ؟ وأنّه لا يحقّ للمشايخ بعد أن يتبيّن بطلانُ تأويل المتفق عليه ليتماشى مع النصوص الصحيحة أنْ يُلزموا الناس به أو يمارسوا أسلوبَ التهويلٍ عليهم.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد