كالعادة، أنا في هذه المقالات، أدوّن أفكاري وعاطفتي في آن واحد، ولا أستطيع فصل إحداهما عن الأخرى.

لذلك سأبدأ بالجزء العاطفي: منذ أربعة أعوام تحديدًا، مثل أي بنت تكبر وتبلغ بدأ وعيي بجسدي يتشكل، أو بمعنى أدق: وعيي بـ”الألم الجسدي”، الألم العميق، الذي يحتل المشهد فجأة وبدون مقدمات. حالة عامة من التوتر المنبعث من الجسد والمنصب على الجسد. تبدأ أسئلة حول الشكل، هل شكلي جميل؟ أسئلة حول المجتمع، كيف يجب أن أتصرف مع من حولي من خلال هذا الجسد الجديد؟ ماذا ألبس؟ وكيف أتصرف؟ ولماذا أنا ضجرة أغلب الوقت؟ كيف ينظر الآخرون إلى جسدي؟ لماذا جسدي يسبب كل هذا التوتر وكل هذه الأسئلة وكل هذا الألم؟

عند تلك النقطة الحساسة كنت أشعر بحالة عامة من الانفصال بيني وبين جسدي الجديد، فأنا لا أفهمه، وهو متعب ومتقلب أغلب الوقت، وصرت أكثر عزلة وأكثر قلقًا في التعامل مع الناس من خلاله، ثم في مرحلة تالية، جربت – مثلما جرب معظم الفتيات- أن أرتدي ملابس واسعة تغطي كل جسدي مع وضع غطاء على رأسي “ما يسمى بالحجاب”، فعلت ذلك كما تفعل أية فتاة في سني، لأنها سمعت من محيطها العام أن الحجاب شيء جميل وواجب على كل بنت، أحببت ذلك لفترة فعلًا، لكن بعد وقت ليس بطويل كنت أكبر وأتغير وأتشكل وأبني أفكاري المختلفة عن السائد، فصرت حقيقة لا أفهم هذا الحجاب، هذا القماش الذي بدا بلا معنى بالنسبة إليّ وقتها. يقول بعضهم إن الحجاب فرض، يقول بعضهم الآخر إن الحجاب ليس بفرض، ويقول بعضهم إن الحجاب مهين للمرأة، يقول بعضهم الآخر إن الحجاب تكريم للمرأة، وقال لي أحدهم ذات مرة: “الحجاب مهم، أنت كفتاة جسدك كله مفاتن قد تفتنني كذكر”وقد أضجرني هذا القول جدًا، ولم أرغب حتى في مناقشته.

كنت أفكر: أحقًا كل الغرض من الحجاب ألا أثير غرائزك؟ حسنًا لماذا إذا لا تتحجب أمك وأختك أمامك حتى لا تثيرك؟ وبنتك؟ ألسن كلهن يمتلكن أجسادًا أنثوية؟ وإذا كان الحجاب حماية لي من عينيك، فبعض الأموال والحياة المرفهة، قد تضمن لي حماية كاملة وحصانة ولن أضطر لارتداء الحجاب! وما علاقة كل ذلك بـ”الله”؟ لماذا يريد الله منا أن نغطي أجسادنا؟

في العموم هذا كله لم يهمني كثيرًا، ولم أقف أمامه كثيرًا، أنا كنت أتألم جدًا تجاه جسدي وكنت أبحث عن الفكاك من هذا الألم، كان التوتر يتفاقم، صرت أكره الثياب كلها وليس الحجاب فحسب، كنت أقضي وقتًا طويلًا وحدي متخففة من ثيابي بحثـًا عن الخلاص من هذا الألم، ولم يكن ذلك يجدي نفعًا فحتى جسدي بدون ثياب يثير توتري. كنت عندما أنظر إلى وجهي في المرآة والحجاب ملفوف حوله يصيبني الجنون، كنت أشعر أن هذا الحجاب صندوق من الحديد يحيط برأسي، وبرأس كل الفتيات حولي، الفتيات في المترو يرتدين صناديق من حديد، الفتيات في المدرسة داخل صناديق من حديد، الفتيات في كل مكان داخل حديد، حديد، حديد.

عند هذه النقطة، كنت قد سئمت تمامًا، وقررت خلع الحجاب، كنت أبحث عن نوع من التوافق بين ما بداخلي: ذاتي الداخلية، وبين مظهري الخارجي، واعتقدت أن عدم ارتداء الحجاب هو ما سيمنحني ذلك “التوافق”، وسيجعلني طبيعية أكثر، ومنطلقة أكثر، وغير مقيدة، ولكن ذلك، للأسف، لم يحدث! عدم ارتداء الحجاب أيضًا لم يجدِ نفعًا ولم يخلصني من أزمة الجسد والتوتر الدائر حوله.

مازال الألم الممل.

ما الحقيقة في ذلك؟ ما الانسجام الحقيقي مع الجسد؟ وهل هناك هذا الانسجام حقـًا أم هو محض خيال وأمانٍ؟
في هذه المرحلة من حياتي، بعد عامين أو ثلاثة أعوام بدون حجاب، وبعد أن مررت بتغيرات عدة، أنا الآن قد سلمت لفكرة أن هذا التوتر الذي يلازمني ناحية جسدي – ويلازم معظم الفتيات- ليس السبب فيه هو الملبس وليس السبيل للتحرر منه هو التخفف من الملابس أو تغطية الجسد كاملًا حتى لا يبين منه شيء.

إن التحرر من هذا التوتر الدائم متعلق بفهمنا لطبيعة هذا التوتر. أرى التوتر ناحية الجسد شيئًا مستمرًا ولا نهائي، وقد يرتقي ليكون جزءًا أصيلًا من ماهية الجسد الأساسية، أرى الجسد في ذهني عبارة عن كتلة من الألم والتوتر، نحن نولد بفضل الألم الذي تكابده أمهاتنا للمجيء بنا إلى الحياة، وفي كل لحظة منذ ولادتنا نحن نتألم، كل ما يقوم به جسدنا من عمليات أكل وشرب وإخراج وتنفس ينتج عنها الألم، حتى إن اللذة الجنسية ناتجة عن الألم، دورة الحياة في أجسادنا ودورة الطمث في أجساد الفتيات وكل شيء كل شيء هو في حقيقته ألم محض.

إذن إن الألم هو جزء من حياة هذا الجسد وتكوينه، وبدون هذا الألم يكون الجسد ميتًا لأن الألم لا يتوقف إلا ساعة الموت، وعندما أدركت ذلك توقفت عن محاولة التحايل عليه وقهره، وتحولت إلى محاولة التأقلم معه وإدراكه دون جزع أو ضجر.

من خلال تقبل لحظات الألم والتوتر الكبرى وتركها تمر كشيء لا مفر منه، وباحترام جسدي واحترام احتياجاته وعدم محاولة إرغامه على أن يوضع داخل قالب معين لإرضاء الناس والمجتمع، لست مضطرة لأكون جميلة طوال الوقت، أو صافية الذهن طوال الوقت، لست مضطرة لأكون البنت عديمة المشاعر والمصمتة والتي لا تتحدث في أمور الجسد لأبرهن على عفة جسدي وأحاكي النموذج المنتظر للبنت “المحترمة”، ولست مضطرة لارتداء ملابس لا تناسبني لمجرد أنها ستجعلني أجمل في عيون الناس أو أكثر انفتاحًا وعصرية.

وأن أتخفف من الألم أيضًا خلال محاولة الاندماج مع العالم من حولي، صحيح أن هذه المدينة لا تكثر فيها مظاهر البيئة الصحية والأشجار والشوارع المريحة التي يحب الإنسان الاندماج معها، صحيح أن المياه في الصنبور رائحتها كرائحة مياه المجاري تمامًا وأحيانًا يكون لونها غريب أيضًا، لكني حقًا – حقًا- أحاول أن أجعل جسدي يتفاعل مع هذه البيئة دون ضجر، أفكر فقط أن هذا قدري، هذه المياه قدري، وهذه الشوارع قدري، وأني سأقبلها كما هي، وسأعلم جسدي أن يرضى، أن يتأقلم مع كافة الظروف وكافة أشكال الحياة، أن يحب الأتربة والجلوس على الأرض والأرصفة كما يحب السرير النظيف الوثير الدافئ.

 

وعدت، مرة أخرى، لمحاولة النظر إلى الحجاب بعين جديدة، وروح وذهن أكثر انفتاحًا عن ذي قبل، قررت ان أنسى كل ما قرأته أو سمعته من مجادلات وصراعات حول الحجاب، وأن أسأل نفسي بصدق، ما الحجاب؟

وكان يلزم قبل ذلك أن أسأل نفسي بصدق: من الله؟ وما الدين؟ وأجبت بصدق: الله هو الحقيقة القصوى بداخلنا يا إيثار.

إن الله بداخلي له صوت أعلى من كل الأصوات الخارجية، ومن حقي أن أستفتيه، وأن أحاول استنباط فهم مختلف يريح قلبي، من حقي أن أسأل نفسي، إن كان هناك دين، إن كان هناك حجاب، فيا ترى، لماذا هذا الحجاب هو عبادة وأمر مقدس؟

وجاوبت نفسي علي كالتالي: إننا كإناث يا إيثار جميلات، وأنت تعرفين ذلك، خلقنا لنكون جميلات، في تركيبنا وفي فكرتنا وفي مظهرنا، وجزء كبير نسبيًا بداخلنا يدفعنا لتكثيف جمالنا المظهري، وإبرازه، وليس من عيب في ذلك بلا شك. إنه جزء منا. والإفراط فيه قد يجعلنا نصل لأن نحصر الأنثى كلها في المظهر الخارجي فقط.

وفي العموم فكرة “إبراز الجمال” هذه، حتى في إطارها المقبول والطبيعي والمعتدل، فهي تحمل داخلها نوعًا من أنواع التوتر، والسؤال الدائم عن “ماذا أكون في عيون الآخرين؟”

وإذا نظرنا إلى أمر التوتر حول الجسد الذي يلازم الأنثى نفسها، فإني أرى يا صغيرتي أن الحجاب قد يكون نوعًا من أنواع تخفيف التوتر نحو الجسد من خلال إعلاء قيمة الروح على قيمة الجسد، أي أن الحجاب هنا، هو تخفف روحي من كل هذه الأفكار وكل هذا التوتر، هو عقيدة، التي قررت أن تعتنقها – في وجهة نظري- يجب أن تنشد من خلالها الوصول لشعور بأن جسدها ليس هو ذاتها الحقيقية، بل هو مظهر خارجي، وأنها تريد تهميش هذا المظهر وفق خطتها في السمو بروحها، وخطتها هذه بالتأكيد تشمل مجموعة من الممارسات الروحانية التي لا تقتصر على الحجاب فقط.

إنها تؤمن بذلك في كل الأوقات، في بيتها، وفي الشارع، وسط الرجال ووسط النساء، هي تدرك طوال الوقت قيمة روحها وتحاول الاتصال معها بشكل أكبر، إرضاء للحقيقة التي بداخلها، التي تحاول الاقتراب منها، وهي “الله”.

وهذا الحجاب متعلق بالأنثى وبتعاملها مع ذاتها وبعلاقتها بربها أكثر مما هو متعلق بالذكر وشهواته، وهذا أيضًا يعني – في وجهة نظري- أن الحجاب أمر راجع كلية للمرأة، وهي وحدها التي لها الحق في تقرير إن كانت سترتديه أم لا، وهل هي على القدر الكافي من الالتزام الأخلاقي والديني لذلك أم لا.

نعم الحجاب بهذه النظرة التي أراه بها أمر حسن، وعبادة نتقرب بها من الله، لكنها – ككل العبادات- من حق كل إنسان أن يختار الوقت والطريقة والأسلوب الذي يناسبه لتطبيقها، وعليه أولاً أن يشعر بحاجة ملحة لفعل هذه العبادة، حاجة نابعة من شعوره الديني الخاص والشخصي وليس لأي شخص آخر الحق في فرض أية عبادة عليه.

 

حين أراقب الفتيات في الشوارع وفي المدرسة وأفواج البنات في “السنتر” التعليمي، أتساءل هل هذا هو الحجاب؟ إنني لا أرى تلك الروحانية التي أبحث عنها، بل أرى نفس الصناديق الحديدية الذي أفجعتني منذ أعوام، أرى فقط فتيات في مقتبل العمر، لم يحظين بكثير من التجارب، ارتدين الحجاب لأنه لعوامل اجتماعية صار الحجاب هو السائد وهن يتبعن السائد. هن مطالبات بغطية أنوثة هن غير واعيات بها من الأساس، فقط ليكسبن لقب “محترمة”. كيف يكون المرء مخلصًا في عبادته إن لم يكن واعيًا بها؟

الحجاب المنتشر حاليًا هو في ذهننا الجمعي تكريس لفكرة الجسد وليس تخففًا منها، هو يكرس لفكرة أن الأنثى قيمتها في مقوماتها الجسدية، وأنها ترتدي الحجاب لتزيد من ثمن جسدها، فالبضاعة المغطاة قيمتها أكبر من البضاعة المكشوفة، وصار بعضهم يتفنن في عرض هذه الفكرة، فمرة يشبهون الأنثى بالمصاصة التي إن تركت مكشوفة سيلتم حولها الذباب، ومرة يشبهونها بـ”التابلت” الذي يجب أن يغطى حتى لا يخدش! والشباب ينجرفون في أفواج وراء هذا الكلام. وعوضًا عن أن هذا المفهوم يهين الأنثى ويجعلها مجرد سلعة، فهو أيضًا يتنافى مع أي غرض روحاني يمكن أن تستنبطه أو تتأمله من الحجاب، ويحوله من عبادة روحانية للتقرب إلى الله إلى ممارسة اجتماعية تكرس لمفهوم تسليع المرأة والتعامل معاها كوعاء للجنس والشهوة، وتنفر الكثير منه وتخلق الكراهية نحوه.

 

هل سأرتدي الحجاب يومًا ما؟ إن وصلت لاحتياج روحاني حقيقي متغلغل فيّ لهذا الحجاب فسأفعل. وأعتقد أني لن أصل لهذه النقطة إلا بعد حسم كثير من الجدالات والأسئلة التي تدور في ذهني حول تطبيق فهمي للحجاب على أرض الواقع، أسئلة لا أجد الإجابة عنها حتى الآن، مثل: ماذا لو كان الدين الحقيقي كشريعة ونصوص لا يطابق شعوري الديني الخاص؟ وما الذي يؤدي إليه الحجاب وسط المنظومة العامة التي تحكم وتحدد دور المرأة ووجودها؟ هل هو يدعم دورها؟ أم يحده؟ هل الشريعة في العموم تحد دورها وتجردها من إمكانياتها؟

لا أعتقد أن في أسئلة شديدة الحساسية مثل هذه سيكون الوصول للإجابة سهلًا، أو سريعًا، ربما يستغرق سنوات طوال، ويحتاج كثيرًا من المجهود والبذل الذهني والفكري.

لكني في كل الأحوال، سأظل، أثق فيما يخبرني به قلبي.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد