أتفهم بالطبع أن يدافع أصحاب المصالح عن السيسي ويتبنون خطابه، ولكن ما يثير في نفسي التساؤلات! لماذا قد يدافع بعض الفقراء ومحدودي الدخل عن السيسي وأمثاله في كل مكان؟! وتساؤل آخر ماذا لو كان السيسي نفسه مخلصًا فيما يفعله؟ وهل ما يقوم به يختلف بالفعل عن ما قام به «محمد علي» الذي يحتفى به في التاريخ باعتباره مؤسس مصر الحديثة؟!! وهل الموضوع ببساطة ناتج عن تصدير أسطورة أن «العيب ليس في السيسي ولكن العيب في من حوله»؟! هل يخشى المواطن مثلاً تبعات الثورة وعدم الاستقرار؟! أم أن للموضوع جذور أعمق من هذا؟!
بداية ما الذي يفعله السيسي؟ إن جل ما يفعله هو محاولة الحفاظ على الدولة، الدولة التي أنشأها محمد علي بعد مذبحة القلعة بالتجنيد الإجباري للفلاحين وإعلانه وضع يده على كل أراضيهم بقوة السلاح، الدولة التي أسسها المماليك على رؤوس ودماء المصريين ثم دافعت عن العالم الإسلامي من الغزو التتري كما تروي كتب تاريخنا، دولة الفراعنة أبناء رع، دولة الأهرامات وقناة السويس التي شيدها وحفرها المصريين بالسخرة لتصبح فخراً للأجيال اللاحقة، دولة عبد الناصر التي حركت المظاهرات المنادية بإسقاط الديمقراطية، أليست هذه بالفعل هي الدولة التي تفاخرت بها كتب التاريخ وأسست وعي أجيال المصريين المتتالية؟! وهي نفسها الدولة التي تباع جنسيتها اليوم مقابل الدولار؟!
يقول ماركس أن الوعي السائد هو وعي الطبقة السائدة، ولهذا فما يقوم به السيسي من حفاظ على مفهوم الدولة التراتبية التي تفاخر بها التاريخ المصري السائد في إعلامه وتعليمه باعتبارها «دولة الفراعين والمماليك، دولة محمد على وناصر»، «دولة الأهرام وقناة السويس والتجنيد الإجباري»، ستكون متسقة كليًا مع مفاهيم المصريين عنها، وبالتالي سيكون هذا السائد هو الأقرب إلى عقول المصرييين وعاطفتهم، ويكون من المبرر تمامًا وقوف الكثير من فقراء الوطن مع السيسي في مشروعاته وممارساته حتى لو كانت ضد مصالحهم الخاصة، فالسائد هو أن يعلو الشأن العام ويُحتقر الشأن الخاص، وأن يختزل الوطن في مجموعة من المبادئ الفطرية التي يجزم العقل بها باعتبارها من طبيعة الأشياء، مثل ضرورة وجود سلطة عائلية وتراتبية طبقية واصطفاف مجتمعي خلف الزعيم الملهم الذي يقود مؤسسات الدولة، فالدولة هي الأم ونحن الصغار، هي الأب ونحن الأبناء، هي القائد ونحن الجنود، هي (المسجد / الكنيسة) ونحن التابعون، وبالتالي عندما يطلب الأب من أبنائه التضحية والتحمل من أجله فمن الجحود الرفض أو فعل النقيض، فما يجب على الصغير هو الطاعة الكاملة للكبير «العالم بكل شيء»، كما أن ما يقوم به الكبير، مهما كان ضئيلاً وغير لائق، هو تعطف منه على هذا الصغير.
في الفيلم التسجيلي للمخرج داوود عبد السيد «وصية رجل حكيم في شئون القرية والتعليم» سئل مدرسان عن أهمية التعليم، فكان رد الأول الذي يوصف بسليم النية حسن الطوية من قبل الراوي الذي يمثل النظام: أن وظيفة التعليم هي تكوين المواطن الصالح وغرس سلوك وقيم المجتمع مثل احترام الصغير للكبير وعطف الكبير على الصغير وحب الوطن»، بينما كان رد المدرس الآخر الذي يوصف بالفاسد المُفسِد من قبل نفس الراوي: أن هدف التعليم هو خلق المواطن الواعي الذي يعرف ما له من حقوق وما عليه من واجبات والذي يساهم في تغيير وجه المجتمع.
ما يقوله المدرس الأول هو ما يدافع عنه السيسي، وأمثاله في كل دولة، بكل إخلاص، وهو الدفاع عن دولة العلم والإيمان، الغني والفقير،المالك والأجير، دولة تبويس اللحى، دولة الرتب العسكرية والرتب الاجتماعية، دولة طبيعة الأشياء، فقد خلقنا الله طبقات ومراتب، والدفاع عن هذه الطبيعة واجب، والتساؤل عن مدى صدقها كفر بالله وخيانة للوطن، وعندما يدافع الفقير غير الواعي عن مثل هذه المفاهيم، فهو يدافع عن جزء من ذاته ومكون رئيسي في وعيه الفردي والجمعي الذي تشكل مع الزمن، يدافع عن خطاب ليس من صنعه ولكنه أصبح أسيرًا له، ليسقط لا واعيًا في عشق جلاده.
ولكن ماذا لو لم يكن هذا هو الوطن؟ وماذا لو كانت كل هذه مفاهيم خاطئة؟ وماذا لو لم يكن الوطن هو مؤسسات الدولة التي تحولت إلى أصنام؟ وماذا لو اكتشفنا أن الوطن ليس انعكاسًا للعائلة؟ ليس انعكاسًا للمؤسسة العسكرية؟ ليس انعكاسًا للكنيسة والمسجد؟! ماذا لو اكتشفنا أن العكس هو الصحيح؟ وأن كل هذه المؤسسات هي انعكاس مكثف لطبيعة علاقات الإنتاج في المجتمع؟! وأن هذه التراتبيات كلها هي انعكاس لمصالح الطبقة الحاكمة ليس أكثر؟ هذه الطبقة التي تريدنا جنودأا وأبناء وتابعين حتى لا نسأل السؤال «ما هو موقعنا حول أدوات الإنتاج؟»، ولماذا لا تكون هذه ليست طبيعة الأشياء بل تشويه لهذه الطبيعة؟ ولماذا لا نكون كلنا مواطنين لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات؟ وفي مصلحة من أن تصبح مؤسسات الدولة «رَقيب» لا «رَقيب» عليه؟! وفي صالح من يصب كل ما تطلق عليه مؤسسات الدولة «إنجازات» وما تحققه من «نمو»؟! وما تفسير أن تكون هذه الدولة القائمة بالأساس على كل هذا الكم من الشعارات الوطنية هى نفسها من يعرض بيع الجنسية مقابل الدولار سوى أن كل هذا مجرد قناع لحركة رأس المال؟!
قد يكون صحيحًا أن الإنسان عدو ما يجهله، ولكن هذا لا يعود بالطبع الى التأخر الذهني عند البشر، ولكنه يعود إلى منظومة الهيمنة على الوعي التي يسيرها النظام الرأسمالي بكامل طاقته، وما السيسي وبوتين والبشير وترامب… إلخ إلا تروس في هذه الآلة الدعائية الضخمة التي تعيد إنتاج هذا الوعي السائد عبر مراكز الهيمنة التابعة لها في كل موقع ومع كل دورة جديدة كاملة للأرض حول نفسها وحول الشمس، هذه الكرة التي تنتظر اللحظة التي يعي فيها ساكنوها حقيقتهم العالمية كأبناء لبيئة واحدة يجب أن يتوحدوا معًا من أجل صالحهم وصالح الكوكب ككل.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست