يعلم الكثير عن تجربة المصالحة التي مرت بها جنوب إفريقيا بعد عذاب التفرقة العنصرية ما يقارب قرنًا من الزمان بقيادة رئيسها السابق والمناضل الشهير نيلسون مانديلا، وفريديريك دوكليرك، آخر الرؤساء البيض حينئذٍ ونائب مانديلا أثناء رئاسته. لكن لعله ليس من المعروف كثيرًا كم كانت صعوبة مرحلة المصالحة نفسها. فلعلهم يظنون أنه بمجرد الإفراج عن مانديلا ورفع راية التفاوض من أجل الوصول إلى مصالحة شاملة أن الأمور سارت بيُسرٍ وانفرجت الأزمات وتوقفت الصراعات في وقت قصير. أستشعر وأتخيل حين يتحدث البعض عن هذه التجربة كأن الأمر سار بعد الإفراج عن مانديلا في صورة حوار هادئ مع دوكليرك حين استقباله إذ يحتضنه مهنئًا له بالخروج ويدعوه ليتقلد منصب الرئاسة أو تحديد موعد الانتخابات التي ستأتي به رئيسًا، ثم يُصر مانديلا في أجواء أخوية لطيفة على أن يكون دوكليرك نائبه كرد متواضع للجميل وإكرامًا لإنصافه!
الحقيقة أن المفاوضات بين مانديلا والحكومة العنصرية استهلكت ما يقرب من أربعة أعوام لإتمامها، في حين أن نواة الأمر قد أُطلقت منذ خمسة أعوام سابقة للإفراج وبالتحديد في سنة 1985حين بدأ مانديلا يرسل خطاباته – بشكل فردي لا باعتباره ممثلًا لحزبه – إلى الحكومة العنصرية لعرض التفاوض، الأمر الذي نال التجاهل التام في تلك السنة ثم تطور بشكل بطيء ومتدرج بل ومتقطع أحيانًا مرورًا بثلاثة رؤساء كان دوكليرك آخرهم، وهو من اتخذ الأمر جديًا وبدأت على يديه مرحلة التنفيذ الفعلي الذي كانت أُولى نتائجه خروج مانديلا سنة 1990 بعد حوالي ثلاثة عقود من السجن، ثم استفتاء للبيض على سياسة دوكليرك أظهرت أن أقل من الثلثين بقليل يرغبون أن يستمر في الحوار والمفاوضات مع الثائر الأسود. ومن غريب المفارقات أن مانديلا كان متوجسًا من دوكلريك عندما علم بتسلمه السلطة، فقد كان وزيرًا سابقًا ومسؤولًا مسؤولية مباشرة عن بعض المجازر التي تمت ضد الجنوب أفريقيين!
عاشت جنوب إفريقيا فترة عصيبة جدًا مليئة بالدماء والفوضى بعد خروج مانديلا الذي لم يُعلِن هو وحزبه (حزب المؤتمر الوطني الإفريقي) إنهاء الكفاح المسلح إلا بعد أكثر من خمسة أشهر من خروجه! بل وبمبادرة من رئيس الحزب الشيوعي، جو سلوفو، المتحالف مع حزب مانديلا! والذي كان من أشد المؤيدين لمبدأ التفاوض والتصالح على عكس شريكهم في السجن أحمد كاثرادا. لكن – إحقاقًا للحق – كان مانديلا يرغب في ذلك ولولا دفاعه عنه بشدة أمام المعارضين الكُثر في حزبه لما أُعلن وقف الكفاح المسلح رسميًا. وحتى بعد إعلان إنهائه استمرت المتاعب أيضًا، فالشرطة لا ترغب في المصالحة وأصحاب النفوذ وبعض الجماعات والقبائل المسلحة التي سيطر الثأر والعنف على سلوكها وعلى رأسها «أنكاثا» بزعامة رئيسها بوتيليزي كانوا مستمرين في عملياتهم المفسدة لها. ساد العنف في البلاد لتصبح جنوب إفريقيا كل يوم على مجزرة جديدة، «كان يموت المئات كل شهر» كما قال مانديلا الذي تحدث عن «طرف ثالث» لا يعرفه يريد أن يقضي على المفاوضات والحل السلمي، وتكلم عن أرباب مصالح يريدون إعاقة مسيرتهم السلمية وعن عجز الحكومة – إن لم يكن تواطؤًا – عن محاسبتهم.
لا أعتقد أنك تقرأ مثل هذا الكلام لأول مرة!
في صورة متناقضة، لم يكن دوكليرك بالرجل الذي كان يود ترك السلطة من أجل السود بسهولة. تتابعت عليه الضغوط من مذابح من البيض بتستر من الشرطة والعمليات الإرهابية والعقوبات الخارجية (التي كان مانديلا من جانب آخر يرفض الدعوة لتخفيفها حتى تلبية مطالبهم) وتصاعدت حدة الأحداث وتهديدات مانديلا وحزبه وكان كل ذلك مؤشرًا قويًا أن الانتخابات الديمقراطية الحرة صارت أمرًا حتميًا ولو لم يكن بالقوة الكافية التي تجعله قريبًا، إذ جعله تجاهل – أو عجز – التحقيق في تلك المذابح دائمًا في مرمى كثير من الاتهامات التي يتحتم عليه تفاديها. كان دوكليرك «براجماتيًا بحتًا» بحسب تعبير مانديلا نفسه وأنه لم يفعل ذلك قناعة وإنما دُفعَ إليه دفعًا. وأيًا كان ما وصفه مانديلا دقيقًا أم لا، فهذا – كما ذكرنا – وإن أثَّر في المسيرة فإنه لم يغير في سبيلها، فقد مُهِّدَ الطريق بالفعل.
هل تعلم أن زوجة مانديلا بعد خروجه بِعدَة أشهر أُدينت في قضية تواطؤ في اعتداء مات فيه شخص كانت وظيفته حراستها؟ هل تعلم أن حياة مانيلا مع زوجته التي ناضلت وصبرت على طريقه طوال سجنه وبعد خروجه قد تعقدت حتى انفصلا؟!
لم تثنه الضغوط من كل جانب عن يقينه وعزمه عن حلم تحقيق السلام لوطنه. كانت براجماتية دوكليرك وواقعيتة أكثر إثمارًا له عن كل من سبقه وهو أمر لا بد أن يؤخذ بالتقدير المناسب والاستفادة منه في شكل استمساكٍ بالفرصة أيًا كانت العوائق، فقد أدرك يقينًا أنه «لا مستقبل بلا عفو» كما قال القس ديزموند توتو الذي ترأس لجنة الحقيقة والمصالحة التي أنشأها مانديلا بعد تنصيبه رئيسًا، وهي ما سيأتي ذكرها لاحقًا في حديث مستقل. لم يكن أبدًا النضال السلمي مفروشًا بالورود ولكن بدماء أبرياء كانت الثمن الأغلى الذي تكفلت به المصالحة. فسلام جنوب إفريقيا هو الذي توج جهاد أبنائها ومهَّد لمستقبل أفضل سواء في ذلك من رضي منهم بالمصالحة ومن أبى. إن حكمة قائد واحد قد تنقذ الأُمة كلها حتى لو كان فيها من يدفع بنفسه إلى الهلاك ظنًا أن ذلك في سبيل البلاد. ولا شك أنني يحضرني وكل متوجع على حالنا سؤال مُفْتَقَدَة إِجابته: من لها في مصر؟
مما سبق يسهل أن نستنتج أن ثمرة المصالحة تأخذ وقتًا طويلًا حتى النضوج، لذلك يجب بذر بذرتها مبكرًا ولو في أسوأ فصول الصراع. حتى إذا سنحت فرصة النمو كنَّا على الاستعداد الكافي لاقتناصها. فليس من الحكمة أن ننتظر حتى ييأس الإخوان المسلمون وينهاروا، أو حتى تصل الدولة باقتصادها وأمنها إلى الحضيض ثم ندعوا الجميع أن يقتسموا ما تبقى من فُتاتٍ للعيش في البلاد سويًا، حينها سيصبح الوطن سجنًا لن يفيد من يخرج إليه من سجن الدولة شيئًا، وتصبح السلطة وبالًا ووباءً لن يَفيد من يتولاه، ويكون الأمر قد جاوز بزمان فرص إنقاذ الأنفس أو إصلاح الشأن، ولن يُفَسَّر حينها إلا أنهم شاركوا في قتل الوطن، ثم اقتسموا جيفته!
«لا بد من تجرُّع السمّ لإنقاذ ما تبقى من الخرائط والأطفال والبيوت. وما يصدُق داخل الدول يصدُق على مستوى الإقليم. لا ترقص وحيدًا. ولا تدفع شركاءك ومنافسيك إلى خارج الحلبة. تجرَّع بعض السمّ وتواضَعْ. بعض السمّ يعفيك من تناوله كاملًا».
هكذا نصحنا الكاتب غسان شربل في مقالته التاريخية مؤكدًا فيها أن لا مجال لـ«انتصار الفاحش» وأن محاولة ذلك «تدفع الجميع إلى خيار النحر والانتحار». إذًا، فلا بد من تنازلات مَثَّلَها بشيء من السم، ذاكرًا أن قطرة منه تعفي بعد ذلك من الكأس كله. كدت أقول الآن يا ويلنا إن تجرعنا الكأس، لكن يبدو أني غَفَلْت أننا بالفعل قد تجرعنا منه الكثير ولا أدري كم تبقى فيه!
في رسالة مزيفة لنيلسون مانديلا إلى مصر بعد 25 يناير (حقيقتها أن صحفيًّا تخيل لو أن مانديلا ينصحنا، لكنه كان بارعًا بالفعل)، ينصح فيها بأن نتحمل قبول من أفسدوا الحياة السياسية علينا وأن نُشركهم في المجتمع متغاضين عما فعلوه بعد اعترافهم به. يؤكِد أن الأمر مؤلم وصعب، لكنه الأصلح، ويُحذر من أن الإقصاء لن يجلب إلا مزيدًا من العداء الذي يُضْعِف البلاد في الوقت الذي تحتاج فيه إلى النهوض السريع. ذكَّرني ذلك أيضًا بالشعار المعروف الذي رفعته مصالحة جنوب إفريقيا: «سنُسامح لكننا لن ننسى».
أعترف أن هذا النوع من المصالحات والتسويات بالفعل صعب جدًا، صعب على النفوس أن تتحمله، أعترف أنني نفسي أحيانًا لا أُطيقه، يكاد يجن جنوني حين أسمع أخبار الظلم والإرهاب والبطش والعشوائية في الانتقام، وأقول لنفسي لن يجدي ولا يصح.
لكنه حتمي، يفرضه الواقع ويقبله العقل وتؤكد وتحث عليه الحكمة. سنتأسف ونحزن بسببه حينًا ما، لكننا لن نندم إن اتخذناه. وسنذكُرُه يومًا – إن هدانا الله لاتخاذه – باعتباره أعظم ما أنتجته حضارتنا، والعكس صحيح!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
المصالحة