الدستور أو ما يطلق عليه القانون الأعلى والأسمى في البلاد، هو الميزان المحدد والموضح لآلية ممارسة السلطة التنفيذية لتصرفاتها القانونية وإدارتها لشؤون الدولة الخارجية والداخلية، ويختلف ذلك من دولة لأخرى، ومن دستور لآخر، ويعود ذلك الاختلاف بشكل أساسي إلى طريقة وضع واعتماد الدستور، سواءً أكانت بإحدى الطرق الديموقراطية، ونكون بهذه الحالة أمام مواد قانونية تمثل الشعب؛ لأنه مصدرها وحده، ومقتنع ومؤمن بها وبوجودها؛ أم بطريقة غير ديموقراطية ونكون أمام مواد قانونية أحادية الجانب غالبًا، والتي يكون مصدرها قوة النظام وسطوته دون الالتفات للشعب، كون الغاية من الدستور ضبط العلاقة بين السلطات في البلاد والشعب من جانب، وكذلك السلطات فيما بينها من جانب آخر، في هذا الصراع يلعب الوعي الشعبي والحزبي تحديدًا، فيما يتعلق بحق تقرير المصير؛ الجانب الأهم والأكثر تأثيرًا في مواد هذا القانون، فتتمايل الأنظمة بين التوسع في الصلاحيات بين أقسام السلطة: السلطة التنفيذية والبرلمان والسلطة القضائية، لتوضيح ذلك يجب توضيح كل نظام على حدة، مثلًا في حال وجود صلاحيات واسعة لرئيس الدولة وهرم السلطة التنفيذية يعرف بالنظام الرئاسي لإدارة الحكم، وعندما نكون أمام برلمان شعبي يُخضِع الرئيس لقراراته، نكون أمام نظام برلماني لإدارة الحكم، وعندما نكون أمام توزيع في المهام بين السلطة التنفيذية والبرلمان مع وجود منصب إداري جديد في السلطة التنفيذية وهو رئيس الوزراء، الذي يأخذ جزءًا كبيرًا من اختصاص رئيس السلطة التنفيذية، ولكنه يعمل بتعليماته ووفق مبادئ وتوجيهات البرلمان نكون أمام نظام شبه رئاسي لإدارة الحكم؛ فسوف أطرح في هذه المقالة النظام شبه الرئاسي وإسقاطه على الواقع الفلسطيني والحالة السياسية والقانونية التي وصلت إليها السلطة الفلسطينية في ظل هذا النوع من أنظمة الحكم.

في النظام شبه الرئاسي يكون لدينا تعدد في المناصب المؤثرة داخل السلطة التنفيذية، وهذا التعدد متمثل في رئيس الدولة إلى جانب رئيس الوزراء، وما يحدد صلاحيات كل منهم هو المكانة الشعبية والقانونية لهم، فالقواعد السياسية تشير إلى أن وجود رئيس دولة قوي ونافذ، وينال قبولًا شعبيًّا واسعًا ممثلًا في البرلمان، يحصل على سلطات إدارية واسعة، ونتيجة لهذا قد يمثل وحده السلطة التنفيذية، ويتم تهميش دور رئيس الوزراء، أما إن كان رئيس الدولة ضعيفًا نسبيًّا أو لا ينال قبولًا شعبيًّا، وله معارضون يفوقونه قوة، فنكون أمام رئيس وزراء نافذ، وقد ينتزع جزءًا كبيرًا من الصلاحيات المقررة للرئيس لصالحه، ويكون بذلك هو الأبرز في المنظومة التنفيذية، هذا الترنح بين وجهي السلطة التنفيذية مستند في الأساس إلى مكانة السلطة التنفيذية أمام السلطة التشريعية، وهناك العديد من الجوانب التي تقرر هذه الاختلافات.

في الواقع الفلسطيني يتم إسناد النظام شبه الرئاسي في الحكم، ويتم ذلك بانتخاب ممثلي الشعب في انتخابات البرلمان، وما يعرف في الوسط الفلسطيني بالمجلس التشريعي، وكذلك انتخاب رئيس الدولة في انتخابات الرئاسة ويكون بذلك على قمة هرم السلطة التنفيذية، أما مهمة رئيس الوزراء، فهو مهمة إدارية بين رئيس الدولة والمجلس التشريعي، وقد تكون هذه العملية سلسلة، لو كانت جهتا السلطة المنتخبة من الحزب نفسه، وقد تكون معقدة إن كانت الانتخابات، لم ينتج عنها تفرد حزب واحد في البرلمان وكذلك الرئيس.

يكون حينها تعيين رئيس الوزراء مهمة أصيلة لرئيس الدولة، ولكن مشروطة بأخذ الثقة من المجلس التشريعي على شخص رئيس الوزراء ليستطيع أداء أحكام وظيفته، وهنا تكمن قوة النظام شبه الرئاسي ففي حالة عدم الحصول على الحسم في الانتخابات على المنظومتين؛ سيجبر الرئيس على الخضوع لإرادة المجلس التشريعي وسيكون آنذاك للسلطة التشريعية الممثلة لأغلب الشعب عين داخل الإدارة التنفيذية تحول دون تغطرس هذه السلطة في صلاحياتها، ولموازنة القوة بين الإدارات المختلفة لصالح الشعب في النهاية.

قد تتأثر الصلاحيات بين رئيس الدولة ورئيس الوزراء بسبب الوضع السياسي والاقتصادي في الدولة، عندما تكون الدولة تحت ضغوطات سياسية واقتصادية صعبة يحتاج الرئيس للخروج من مأزق تحمل المسؤولية، ويكون ذلك بتعيين شخص في موقع رئيس الوزراء ليعمل على قيادة دفة البناء الوطني والاقتصادي، ويعطى صلاحيات واسعة قد تفوق صلاحيات الرئيس ذاته، بهدف الخروج من الأزمات دون تضرر مباشر لكرسي الرئيس، وعند حصول المتوقع، وهو حل الأزمات يعاد الثناء لرئيس الدولة على اختياراته الحكيمة، وخططه للخروج من الأزمات، والحيلولة دون تفاقمها، وفي حالة فشل رئيس الوزراء الجديد في لملمة الوضع الراهن يقوم الرئيس بإقالته من منصبه وذلك صونًا لحق الشعب، وحفاظًا على الاستقرار، وبذلك يكون الرئيس منتصرًا لإرادة الشعب فهو الذي أوقف بطش منظومته التي ألحقت الضرر بالشعب بإقالتها، ويجسد بهذا الفعل أنه ممثل الشعب وأنه منهم وإليهم.

من أوجه قصور هذا النظام في الواقع الفلسطيني، هو أن وجهي السلطة التنفيذية والتشريعية وصلوا نتيجة انتخابات عامة وحرة وديموقراطية، فهم خيار الشعب ويكون كلاهما مستمدًا قوته من هذا الخيار، وجاء القانون ونظم صلاحيات كلٍّ منهما، وترك خلفه كثيرًا من الثغرات، والفجوات القانونية التي تأخذ تارة شكلها التنظيمي، وتارة شكلها السياسي، والعديد من الأوجه، فمثلًا للرئيس حق اختيار رئيس الوزراء وعليه نيل الثقة من المجلس التشريعي، وللرئيس كذلك حق تجميد المجلس التشريعي، والدعوة لانتخابات جديدة، على الصعيد الآخر لا توجد قوة مؤثرة أو رادعة يلعبها المجلس التشريعي، مثل عزل الرئيس أو رئيس الوزراء، والورقة الوحيدة التي يمكن للمجلس التشريعي الاستفادة منها هي سحب الثقة من رئيس الوزراء، وبالتالي على الرئيس إقالته، وتعيين آخر، أي لا يعطي القانون قوة تصرف منفردة للمجلس التشريعي؛ بل هي طريقة للضغط على الرئيس ليس أكثر.

بإسقاط أوسع وأدق للواقع الفلسطيني، مع إقباله على سباق انتخابي جديد، ومرحلة بناء وطني جديد، تجدر الإشارة إلى أن هذا لم يكن الحال القانوني منذ قدوم السلطة الوطنية في عام 1994، ففي بداية السلطة الوطنية الفلسطينية كان النظام الموجود، والمتفق عليه هو النظام الرئاسي (حينها كان الرئيس والمجلس التشريعي يخضعون للحزب نفسه) وكانت في هذه المرحلة صلاحيات الرئيس واسعة جدًا، وتتقاطع مع باقي السلطات، في عام 1997، أراد المجلس التشريعي تقييد صلاحيات الرئيس وتوسيع صلاحيته، وكان ذلك بصياغة قانون أساسي يخدم هذه الغاية، وكانت مهمة اعتماد القانون الأساسي الجديد عملًا أصيلًا لرئيس الدولة آنذاك، الذي قابل هذا الطرح بعدم المصادقة، ولم يعتمده إلا بعد 5 سنوات من عرضه، ولاحقًا، ونتيجة للضغوط السياسية على رئيس الدولة للحد من صلاحيته، أدخل تعديلًا على القانون الأساسي في عام 2003، ليستحدث منصب رئيس وزراء دون تحديد دقيق لمهام رئيس الوزراء، مع إبقاء على الثغرات القانونية الموجودة مثل عدم قدرة الرئيس على حل المجلس التشريعي، وكذلك مواد إعلان حالة الطوارئ، والثغرات التي سمحت لتجاوز المجلس التشريعي في شأن حالة الطوارئ بما يسمى حالة الضرورة التي أصبحت فيما بعد واقعًا نعيشه على الرغم من أنه كان من المفترض أن تكون الاستثناء، وعلى الرغم من استحداث منصب رئيس الوزراء، إلا أن هذا المنصب جاء بغاية سياسية لتحجيم دور الرئيس في وقتها دون النظر والتدقيق في صلاحيات كلًّ منهما، فمع وجود رئيس قوي في السلطة في كل مرة سنكون أمام نظام يميل إلى الكفة الرئاسية أكثر منه نظامًا شبه رئاسي، سيبقى النظام شبه الرئاسي الفلسطيني وسيلة لرئيس الدولة لحل الصراعات حول منصبه، وللمحافظة على ديمومة استمراره في الحكم مع غياب الغاية الأساسية من هذا النظام وهو توزيع الصلاحيات بين أكثر من جهة داخل السلطة التنفيذية تحقيقًا للديموقراطية.

القانون الأساسي الفلسطيني انتهت صلاحيته، إذ كان مشروطًا بمدة انتقالية انتهت وما زالت نصوصه وأثرها القانوني باقيًا، ومن أجل بناء وطني مقبل يجب صياغة قانون أساسي جديد، يتدارك ثغرات سابقة ويحدد نفوذ كل سلطة على حدة، وعلاقتهم فيما بينهم وكذلك تنظيم الصلاحيات داخل السلطة الواحدة، وعليه أن يحدد شكل هذه السلطات، ففي بلد يرزح تحت الاحتلال يجب على أركان دولتهم أن تكون من اختيار الشعب، وتجنب الفُرقة السياسية وتمزيق أواصل الشعب كما حصل في عام 2007 نتيجة لهذه الأخطاء القانونية وتزاحم الصلاحيات.

النظام شبه الرئاسي الفلسطيني ليس الأمثل للوصول للاستقرار الحكومي والسياسي؛ بل كان غاية لكبح سطوة السلطة التنفيذية وقت اعتماده، وبسبب ضبابية المشهد لم يعد لدى أبناء الشعب القدرة على التوحد خلف مشروع وطني واحد أجبرنا عليه القانون الأساسي المطبق من تعددية غير نمطية وغير مألوفة، تعمل على تهميش أدوار الأقليات وزيادة سطوة الأغلبيات دون صون الديموقراطية، مواد القانون الأساسي هشة الجوانب وتعمل على توسيع الفجوة بين أبناء الشعب الواحد، يجب أن تكون أول خطوة في البناء الوطني هو صياغة دستور فلسطيني بإحدى الطرق الديموقراطية ليعكس تطلعات الشعب الفلسطيني، وليس ما يمليه عليها التدخلات الخارجية لكبح هذه القضية العادلة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد