ما بين مذبحة بورسعيد في فبراير 2012، والتي راح ضحيتها 72 مشجع كرة قدم، ومذبحة إستاد الدفاع الجوي الذي تملكه القوات المسلحة في فبراير 2015، والتي سقط على إثرها 19 مشجعًا على الأقل حسب تقديرات وزراة الصحة المصرية, لا جديد سوى مزيد من الدماء في ظل غياب الجناة، وذلك لأن الجاني ليس فقط قوات الأمن ولكن أيضًا سوء التنظيم، وسوء الإدارة والاستهتار بأرواح الناس من قبل السلطة الحاكمة، وعلى رأسها الرئيس عبد الفتاح السيسي. فلقد نصبت الحكومة المصرية فخًا عن طريق السماح للآلاف من المشجعين بالتكدس في ممرات ضيقة وأقفاص حديدية.
من جانبها قامت قوات الأمن بتنفيذ عملية القتل الجماعي مع سبق الإصرار، عندما أطلقت قنابل الغاز المسيل للدموع على الجماهير العالقة في تلك الممرات الضيقة، وفاقمت من عملية التدافع بالرغم من استغاثات الجماهير لقوات الأمن بأنهم يموتون، للسماح لهم بالخروج أو حتى الخروج من تلك الأسلاك الشائكة, لكن من لم يمت بالتدافع مات مختنقًا بالغاز كما أثبت الأطباء الشرعيون.
وكما طال الموت مشجعي الأهلي في إستاد بورسعيد طال الموت مشجعي الزمالك, وهما أكبر ناديين في مصر, ويبدو المشهد كما يقول أحد مشجعي الزمالك أن “الداخلية تصفي حسابات قديمة” على خلفية مشاركة الألتراس من الناديين في الثورة التي أسقطت نظام مبارك، بل ومشاركتها المنظمة والفاعلة في التظاهرات ضد قوات الأمن، فضلاً عن الهتافات المدوية ضد حكم العسكر في فترة المجلس العسكري الذي حكم البلاد لمدة عام ونصف بعد الثورة, ومثلما ضرب النظام القمعي الجديد كل المعارضة بداية من أنصار الإخوان المسلمين وشباب 6 أبريل الليبرالي والصحفيين وغيرهم من الناشطين المناهضين لعملية القمع المتزايد, لم يكن شباب الألتراس بعيدًا عن قبضة النظام الدموية.
في مشهد يبدو وكأنه “مصيدة” وضعت قوات الأمن حواجز من أسلاكٍ شائكةٍ، وأقفاصًا حديدية في ممرات ضيقة لمرور المشجعين, وبالرغم من الوضع السياسي المتدهور, أصرت الحكومة على إقامة المبارة, ولم يُسمح بالدخول إلى الإستاد سوى من ذلك الممر الضيق، الذي لم يستوعب الأعداد الغفيرة التي جاءت لمشاهدة المباراة وتشجيع فريقها, ولم يُسمح لهم بالدخول بالرغم أن بعض شهود العيان أكدوا أن معهم تذاكر تسمح لهم بالدخول إلا أن إدارة النادي بلاعبيها استكملوا المباراة.
بالرغم من علمهم المسبق بموت مشجعيهم على عتبة الإستاد، سوى لاعب واحد وهو عمر جابر الذي خرج عن السرب ورفض المشاركة وسط استياء من إدارة النادي، وعلى رأسها مرتضى منصور المتهم سابقًا بتحريض عدد كبير من أنصار مبارك؛ لاقتحام ميدان التحرير فيما يعرف إعلاميا بموقعة الجمل أثناء الثورة المصرية في ميدان التحرير. واستمر التدافع حتى تفاقم الوضع, وبدلاً من حماية تلك الأعداد أو السماح لهم سواء بالدخول أو الخروج, وبالرغم من استغاثات الجماهير لقوات الأمن بأنهم يموتون, أطلقت قوات الأمن عليهم قنابل الغاز المسيل للدموع بهدف قتلهم.
ومن هنا سقطت أعداد كبيرة من القتلى والمصابين في ظل تكاسل وتخاذل من قوات الأمن التي دبرت الفخ، ووقع فيه جمهور نادي الزمالك, وتكاثرت الأقاويل ونظريات المؤامرة من المسئولين عن الرياضة في البلاد, منهم من قال أن الجماهير لم يكن معهم تذاكر دخول, وقال آخر أن الإخوان المسلمين وشباب 6 أبريل هم المتورطون؛ لأنهم لا يريدون استقرارًا في مصر, وغير ذلك من أقاويل اتحاد الكرة المصرية الموالية بشكل كبير لمبارك، والتي تنم عن عقلية “مباركية” لا تزال تطغى على المشهد السياسي في البلاد.
الغريب في الأمر أن المجزرة وقعت بعد أيام قليلة من قتل الناشطة السياسية شيماء الصباغ في مظاهرة سلمية بالقرب من ميدان التحرير، وسط سخط شعبي من قوات الأمن التي عادت لسابق عهدها من البطش بأي نشاط سياسي، حتى ولو كانت مظاهرة سلمية تحمل الورود لمن راح ضحية قوات الأمن منذ اندلاع الثورة, وأصبحت الثورة وما تحمله من مظاهرات سلمية مؤامرة تسعى لإسقاط الداخلية مجددًا. ولكن الاستخدام المفرط في القوة من قبل الداخلية ضد المظاهرات السلمية لن يجني سوى عنف مضاد من قبل الجماعات المسلحة، والتي زادت وتيرتها في الفترة الأخيرة بسبب القمع المتتالي لأي نشاط سياسي سلمي.
وعقب مجزرة إستاد الدفاع الجوي, أعربت رابطة ألتراس “وايت نايتس” عن استيائها عقب قرار النائب العام بضبط وإحضار قيادات المجموعة، وبعدما اكتفى النائب العام باستدعاء واحتجاز 17 مشجعًا من الألتراس، دون مساءلة إدارة النادي او اتحاد الكرة أو قيادات الشرطة التي أعطت أوامر بإطلاق الغاز الذي تسبب في عملية التدافع والفر والكر فضلاً عن اختناق عدد من المشجعين. نشرت الرابطة بيانًا عبر صفحتها بموقع “فيس بوك”، الاثنين قالت فيه “الحقيقة مش محتاجة لسان يقولها، واحنا لينا حق مش محتاجين ندافع ولا نشرح عشان مفيش كلام يتقال، النهاردة احنا موجودين في عزا وجنازات شهداء جماهير الزمالك اللي اتقتلوا غدر مش لهدف معين، ولكن لأن بطشكم فاق المدى. يا حضرة القاضي وفر ورقك احنا مش هنتسحل في السكة دي، الحقيقة واضحة قدام العالم كله والجاني واللي حرض على القتل عارفينهم، واحنا مرينا في محاكمكم كتير لا نصرتوا حق ولا اقتصيتم لمظلوم. فآن الأوان تمروا لمحاكمنا.
وعلى الباغي تدور الدوائر”. جاء ذلك بعدما خذل القضاء من تسبب في مجزرة بورسعيد قبل ثلاث سنوات.
يزعم النظام الحالي أن السعي لإبادة خصومه هو هدف وطني نبيل، هدفه الخوف على الوطن. والنتيجة بقاء الخصوم وسيبقون وضاع الوطن, وأصبحنا أسرى لوكلاء الدم في الجهتين، جهة تريق الدم باسم الدين وجهة تريقه باسم الوطن، والحقيقة أن الدين لن ينتصر بقتل جندي يقف أمام كتيبته أو تفجير أمام قسم شرطة، ولا الوطن سينتصر بقتل متظاهر يشارك في مسيرة أو منع صوت معارض من الكلام, وكلما زاد العنف من جانب طرف استغله الطرف الآخر؛ لإقناع أعضائه وتجنيد عدد آخر معتقدين أنهم لن يحسموا المعركة إلا بعنف أشد، وكلما زاد عدد المقتنعين بخيار العنف كلما أصبحنا أقرب إلى الحرب الأهلية الكاملة.
تَوحش الشرطة لا يقتصر فقط على القتل المتعمد أو غير المتعمد أثناء فض التظاهرات، ولكنه شمل أيضًا عددًا من الجرائم التي استخدمت فيها عناصر من الشرطة سلاحها؛ لقتل المواطنين العزل بشكل متعمد في ظاهرة غير مسبوقة منذ ثورة يناير أو حتى إبان الثلاثين عامًا التي حكم فيها مبارك البلاد بقبضة حديدية.
ويوحي المشهد إلى أي مدى أصبح العبث بالأرواح عملاً روتينيًا يوميًا, ولقد شاءت الأقدار أن يقع الحادث المأساوي بعد أسبوع واحد من مقتل مواطن متهم على يد شرطي كان يقوم بحراسته أثناء علاجه في أحد مستشفيات القاهرة, والغريب في الأمر أن تصريحات وزارة الداخلية ووسائل الإعلام التمست الأعذار للشرطي بحجة أنه تم استفزازه من قبل المتهم، وركزت تصريحات أخرى أن المتهم كان عضوًا في جماعة إرهابية في إيحاء ضمني إلى أنه يستحق قتله.
وفي واقعة أخرى حدثت في الأول من فبراير نقل موقع “البداية” تفاصيل إطلاق ضابط شرطة النار على سائق سيارة فى حي إمبابة حاول الهرب؛ لأنه لم يكن يحمل رخصة للقيادة، وأدى ذلك إلى قتل السائق. وفى المنوفية قتل رقيب شرطة عاملاً زراعيًا تعارك مع شقيقه.
وفى روض الفرج بالقاهرة اتهمت إحدى الأسر ضابط شرطة بقتل ابن لها كان محتجزًا بالقسم. وتواتر هذه الأخبار يعني أننا لسنا بصدد أخطاء فردية. ولكننا بإزاء منظومة تهدف إلى العبث والبطش بحياة المواطنين والاطمئنان إلى أن أية تجاوزات تقع من جانب الشرطة ستظل خارج دائرة الحساب والمساءلة، وكأنها رسالة يجب على الجميع أن يدركها.
بطش الداخلية لأبسط حقوق الإنسان كان هو المفجر لثورة يناير, وليس من الغريب أن تعود الوزارة لسابق عهدها قبل الثورة في ظل تبعية تامة من القضاء والنيابة فضلًاً عن حكومة السيسي، التي لم تحاول حتى استدعاء أو استجواب من تسببوا في الكارثة من قوات الأمن. وكما تم نسيان مجزرة فبراير الأولى, ستتسارع التطورات في المشهد السياسي، وسيتم تناسي المجزرة الثانية، وعلى موعد قادم مع مجازر لاحقة من قبل الشرطة يقابله عنف مضاد.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست