في بداية طفولته كان الفتى إبراهام أو أيب كما يحلو لأبيه وأمه مناداته به يعيش وسط الغابات في طفولة بائسة، لم يتمتع كغيره من أبناء النبلاء والتجار بعيش مزايا الطفولة، بل عاشها ككهل شقت صعوبة الحياة دروبها على وجهه. كانت تعابير وجهه تعطيه عمرًا أكبر من عمره الحقيقي، ولكنها لم تكن مزيفة خادعة، بل حقيقة فكان عمر عقله وقلبه أكبر من عمره الحقيقي يتماشى مع تعابير وجهه، في مرة من المرات وهو عائد من جلب قوت يوم عائلته مساعدًا بذلك والده النجار، بدا رث الثياب يحمل على كتفه غصن شجرة في نهايتها حبل غليظ أشبه بسنارة وفي يديه سمكة كبيرة، كانت محصول جهده آنذاك قابل جندي عائد من معارك الاستقلال مع الإمبراطورية الإنجليزية التي كانت تحلم بالسيطرة التامة على الأرض البكر أرض الأحلام الممتلئة بكنوز لم يكتشفها أحد قبل ذلك، سأله ذاك الطفل من أين أنت يا عم؟ هل حاربت الإنجليز يا عم؟ طفل في الرابعة من عمره، لكن فطرته نمت على كونه صيادًا، أراد اقتناص وجود الجندي ليعلم منه أخبار القتال مع الإنجليز، فيروي شغفه بسماعه لمآثر حرب الجندي وأقرانه، ثم يدعوه إلى بيته الصغير المكون من مجموعة من الأخشاب التى اقتطعها والده من الغابة مستشهدًا بوصية أمه له بإكرام الجنود وليحكي لهم الجندي قصص الحرب وانتصاراتهم، لكن الجندي اعتذر ليلتحق بشوقه إلى عائلته، لما بلغ إبراهيم السابعة من عمره بدأ يحمل الفأس ليعزق الغابات لمساعدة أبيه اكتساب القوت لإطعام العائلة الصغيرة، لكنه لم يهمل شغفه بالقراءة والتعلم، بل كان بعد عودته من عمله الشاق يشرب من نهر التعلم ليروي شغفه المتزايد بالمعرفة، بدأت أمه في معاونته لطلب العلم، لكن سرعان ما غادرته في ذاك الشتاء القارس تاركة أيب ليتحمل مسؤولية تعلم العلم لنفسه توفت والدته وترك ذلك أثرًا في قلبه الصغير الذي كانت تداوي جروح مشقة الحياة، يبدو أن شغف السياسة وقصصها كانت متجذرة فى هوى ذلك الطفل الحطاب الصغير فكان أحب شيء إليه يوم يجتمع الجيران مع والده ليتساهروا على أحوال العالم الجديد وقضايا الدين والسياسة والمرأة وغيرها ويكون في رصيده السياسي بنك من المعلومات يخزنه للمستقبل الواعد لهذا الحطاب.
بدأ لنكولن ينهل من مناهل تعلم القراءة والكتابة قدر استطاعته حتى أنه كان يخط بقطعة من الفحم على ألواح من الخشب قدر استطاعته ليداوم على التعلم. ما يميز ذاك الفتى السياسي الصياد شغفه بساسة الأمة وقادتها أنه استعار كتابًا عن حياة البطل جورج واشنطن فابتل ذات ليلة ممطرة الكتاب فحزن حزنًا شديدًا وعرض على صاحب الكتاب أن يحتفظ بالكتاب مقابل العمل عنده في حراثة الأرض ثلاثة أيام واحتفظ بالكتاب وتبدل حزنه فرحًا، ويبدو أنه شرب قيم جورج واشنطن تجاه الإنسان، بل كان القدر يعده ليحقق الحلم الذي مات جورج واشنطن، ولم يره وهو تحرير العبيد وتحقيق المساواة في ربوع الوطن الأم الذي قاتلوا من أجله ودفعوا رفاهية حياتهم بمشقتها ليولد وطن جديد يعلي من قيمة الإنسان وسط هذا العالم الذي صبغ بالاستعلاء واعتبار أن بعض الناس وقود رفاهية البعض، لكن تحقيق هذا الحلم لم يكن بالأمر الهين الذي يأتي بشعارات فضفاضة تدغدغ القلوب ثم ما تلبث أن تغادر القلوب كما يغادر بخار الماء الأرض إلى السماء فلا تجد حتى أثرًا لموضعه، بل كان يحتاج سياسي صياد يتقن مهارة استخدام بندقية السياسة، متين العزيمة لا يرتد جسده إلى الخلف ولو لوهلة مع إطلاقه للبندقية، بل يتقدم ليكمل صيده متفقدًا محيطه بحذر، هذه الخصال لم تكن توجد في هذا الشاب صاحب الوجه الحاد لولا أن الطبيعة وممارسة أمور الحياة، سواء كان المعيشية منها أو السياسية التي خاضها في شبابه غرست فيه وارتوت بماء الحرية لتنبت هذا الرجل.
ذات مرت وهو يتجول في المدينة رأى سوق للعبيد ورأى زوجات تفصل بالسياط عن أزواجهم، وأمهات تصرخ من الألم ليسحب منهم أولادهم كما تسحب الحيوانات من أمهاتهم في سوق بيعها، فتاثر قلبه وقال «لئن أتيح لي يومًا أن أحطم هذه التجارة فلأحطمنها بلا إشفاق».
عمل أيب في قطع الأشجار وتعبيد الطرق وبناء المراكب الشراعية وتعبيدها وأعمال ذات مشقة عالية لكنها لم تثنه عن هدفه الذي غرس في قلبه وينموا في داخله كما تنمو أغصان شجرة الصنوبر وهو إكمال ما بدأه واشنطن.
يتبع.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست