“فأما حبي للعلم وحرصي عليه واجتهادي فيه فمعلوم عند من صحبني، وإني لم أزل منذ حداثتي وإلى وقتي هذا مكبّا عليه، حتى إني متى علمت أن كتابًا لم أقرأه أو رجلًا لم ألقه لم ألتفت إلى عمل آخر ولو كان ذلك على ضرر عظيم دون أن آتي الكتاب وأعرف ما عند الرجل، وأنه بلغ من صبري واجتهادي أني كتبت بمثل خط التعاويذ في عام واحد أكثر من عشرين ألف ورقة، وما زلت أعمل مواصلًا الليل والنهار حتى ضعف بصري وحدث عليّ فسخ في عضل يدي يمنعانني في وقتي هذا من القراءة والكتابة، وأنا على حالي لا أدعهما بمقدار جهدي فأستعين دائمًا بمن يقرأ ويكتب لي”.

هكذا يتحدث الرازي ويصف في كلمات مقتضبة مدى شغفه بالعلم. ويعتبر المؤرخون المسلمون أبا بكر الرازي هو أبا الطب العربي ومنحوه لقب “جالينوس العرب”، بينما يعتبره المستشرقون ومؤرخو الغرب حجة الطب في أوروبا حتى القرن السابع عشر، كما يعدونه أعظم أطباء القرون الوسطى. قال عنه ابن النديم صاحب الفهرست: “كان الرازي أوحد دهره وفريد عصره قد جمع المعرفة بعلوم القدماء لا سيما الطب”. ولد الرازي في مدينة الري وتوفي في القرن العاشر الميلادي بعد أن زاول مهنة الطب في بغداد خمسين سنة، حيث نبغ في زمن الخلافة العباسية وبرعايتها، حيث ضمه الخليفة العباسي المعتضد في مجلسه المكون من العلماء والحكماء وجعله مستشارًا له في الأمور الطبية. ولعل أبرز استشارة قدمها للخليفة هي اختياره لموقع المشفى الضخم في بغداد والذي عرف بـ(البيمارستان العضدي) ولذلك قصة طريفة؛ فحينما وقع عليه اختيار الخليفة لهذه المهمة أمر بإعداد قطع من اللحم الطازج في عدة أماكن من مدينة بغداد، وقد لاحظ أن الفساد قد أسرع إلى بعضها وبقيت قطع أخرى لم يسرع إليها الفساد، فاختار مكانها لبناء البيمارستان. ولما انتهى بناء البيمارستان أراد الخليفة وضع مشرفين عليها فعين الرازي مديرهم بعد أن تم اختياره من وسط مائة طبيب، وهنا إشارة بليغة برغم ما يثار من جدال حول عقيدة الرازي لا يمكن حسمه، إلا أننا نجد هنا أن المناصب في الدولة الإسلامية كانت تمنح لمن يستحقها، وأن كل نابغة قد وجد له موضعًا ورعاية في كنف هذه الدولة العظيمة.

كان أهم ما يميز الرازي أنه نابغة في علوم الطب والصيدلة والكيمياء مجتمعة، مما أفرز شخصية فريدة ومميزة، وكان في سعي دائم وراء المعرفة، باحثًا عنها في صفحات الكتب وعلى أسرّة المرضى وفي تجاربه الكيميائية، ولم يكن يسلم بآراء السابقين مهما كانت عظمتهم إلا بعد أن يمتحن هذه الآراء ويخضعها للتجربة، وكانت لهذه الجرأة الفضل في اكتشاف العديد من الأخطاء حتى في كتب جالينوس نفسه، والذي كانت كتبه تعد أعظم المراجع في علوم الطب، وكان لا يسمح لمرضاه بتناول العقاقير إلا بعد قيامه بتجربتها على الحيوان. وقد ذاع صيته فكان المرضى يأتون من الهند والسند والصين وبلاد الإفرنج إلى البيمارستان العضدي الذي يديره بعد أن ترامى إلى مسامعهم أخباره التي تتحدث عن طريقته في الدقة وتحري أحوال المرضى. ويعتبر الرّازي أوّل مَن كتب ومَيَّز بين مرضي الحصبة والجدري وذلك في كتابه “المنصوري” الذي ألفه في القرن العاشر الميلادي، وذكر فيه إنّهما ينتقلان بالعدوى، وتمت ترجمة الكتاب إلى اللاتينية وقام الطبيب ريتشارد مير بنشر الترجمة كاملة في كتابه في عام 1747 م نظرًا لأهميتها، أي أن مخطوطة الرازي ظلت تترجم وتستخدم لأغراض علمية حتى بعد مرور ثمانمئة سنة على كتابتها.

أما أخلاقه الرفيعة فقد جعلته ينصف جالينوس في كتابه هذا؛ حيث أشار إلى أنه قد سبقه في التنويه عن مرض الجدري، وذلك على النقيض تمامًا مما اتصف به علماء أوروبا من إنكار لفضل المسلمين والعرب في العلوم المختلفة، فضلا عن سرقة اكتشافاتهم ونسبتها لأنفسهم. وهو أول من رصد أن استخدام الموسيقى أو الأصوات الهادئة تعد لونًا من ألوان العلاج لدى بعض المرضى؛ وهذا ما أكدته الأبحاث العلمية الحديثة بعد قرون عدة من استنتاج الرازي، فقد ثبت أن الاستماع إلى صوت خرير الماء أو حفيف الأشجار أو صوت المطر أو شلالات المياه، بجانب بعض المؤثرات الموسيقية يكون لها تأثيرات إيجابية على أذن المريض، وقدرة هائلة على إشاعة الهدوء النفسي وزيادة قوة تركيز الشخص، وقدرته على التأمل، وعلاج أمراض التشتت الذهني.

وهو من أوائل من أشاروا إلى أثر الضوء في حدقة العين وأنه يساعد على اتساعها ليلًا وانكماشها نهارًا، وقد استغل أيضًا هذا الاكتشاف في القيام ببعض البحوث على الأعصاب، وكان من أوائل من تنبهوا إلى العدوى الوراثية، وقد كتب عن واجبات الطبيب وتسببت دقته في نبوغ الفحص الطبي نبوغًا منقطع النظير في زمانه لما أولاه من اهتمام بالملاحظات السريرية، وهي دراسة سير المريض وتتبع حالاته خطوة بخطوة. وهو أول من استخدم مركبات الرصاص في صنع المراهم، وأول من استعمل الملينات الطبية، وأول من توصل إلى استخدام الخيوط المصنوعة من أمعاء الحيوانات في خياطة الجروح المفتوحة عقب الانتهاء من العمليات الجراحية؛ وقد شرح الرازي ذلك بقوله “إن الخيوط المصنوعة من الأمعاء يمتصها الجسم وتصير جزءًا منه”.

وهو أول من قام بمعالجة بعض أنواع الحمى بالماء البارد واستخدام الكحول للتطهير فسبق بذلك أطباء العصر الحديث. ومن فيض أعماله أنه خرج بنتائج حول مرض الربو الناتج عن الحساسية، ومصدر حمى القش، كما خلص إلى النظرية القائلة بأن الحمى هي آلية الدفاع الطبيعية للجسم، ومن أهم ما وقف عليه الرازي التلميحات الأولى حول الربط بين العامل النفسي وصحة المريض، وكان يعتقد بأنه لابد للطبيب أن يكون طبيبًا للروح قبل أن يكون طبيبًا للجسد فيقول: “على الطبيب أن يوهم مريضه بالصحة ويرجيه بها وإن لم يثق بذلك، فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس”. وقد حمله ذلك على وضع قانون للطب الروحاني وهو ما يعرف اليوم بالعلاج النفسي.

وتعد مؤلفات الرازي تراثًا عربيًا خالدًا في عالم الطب والكيمياء؛ حيث وصلت مؤلفاته إلى ما يقرب من مائتي كتاب ورسالة، ويعد من أهمها كتاب “الشكوك”، وراجع فيه بعض الآراء الخاصة بجالينوس وصححها، وكتاب “الحاوي” وجمع فيه صناعة الطب، وكتاب “المنصوري” والذي طُبع مرارًا وتكرارًا في أوروبا، إذ كان يشكل أعظم المراجع مع قانون ابن سينا التي يعتمد عليها في مدارس الطب الأوروبية؛ وفيه يتناول وصفًا دقيقًا لتشريح الجسم وقوى الأغذية والأدوية وصناعة الجبائر، وتحدث عن الحميات والسموم والجراحات والقروح وغير ذلك، وله أيضا كتاب “منافع الأغذية” وفيه يتحدث عن حفظ الصحة من خلال التحكم بالغذاء الذي يتناوله الإنسان، كما يحدد لأصحاب الأمراض ما ينفعهم وما يضرهم من الغذاء، ويتحدث أيضا عن مخاطر المشروبات المسكرة.

أما الكتاب الذي كان يحمل الحس الطريف والإنساني في عنوانه ومحتواه فهو كتاب “من لا يحضره الطبيب” وقد ألفه الرازي قصدًا ليسدي به خدمة إلى الفقراء الذين لا يستطيعون إحضار الأطباء لفحصهم ومعالجتهم، وقد عرف هذا الكتاب باسم “كتاب طب الفقراء” ويعد أول كتيب طبي أعد للعامة. ومن شدة اهتمامه بالأخلاق الحميدة ألَّف كتابًا خاصًا بهذا الأمر سماه “أخلاق الطبيب”، يشرح فيه العلاقة الإنسانية بين الطبيب والمريض، وبين الطبيب والطبيب، وضمَّنه كذلك بعض النصائح للمرضى في تعاملهم مع الأطباء، وله آراء عديدة في تفضيله للطب البديل بالغذاء والأعشاب عن غيره فيقول: “إذا استطاع الطبيب أن يداوي بالأغذية دون الأدوية فقد وافق السعادة”.

ولولا عظمة الرازي وذيع صيته وحفظ مؤلفاته لحرص الغرب على إنكار فضله، إلا أنه احتفظ بمكان له في جامعة بريستون الأمريكية التي ما زالت تطلق اسم الرازي على جناح من أكبر أجنحتها، كما تضع كلية الطب بجامعة باريس نصبًا تذكاريًّا للرازي. ولولا تأييد ودعم الخلفاء المسلمين ورعايتهم للعلماء، ووقوفهم على أهمية علوم الطب ودراستها وإنشاء المستشفيات بدلًا من العلاج بالسحر والشعوذة، لما كان للرازي وغيره من الأطباء تراثٌ زاخر احتلت به الحضارة الإسلامية موقع الريادة ذات يوم.

ويذكر المؤرخون أن الرازي كان نحيلًا كبير الرأس ذا لحية رمادية كريمًا، متفضلًا، متواضعًا، طيب القلب، ويولي مرضاه اهتمامًا فائقا، وكان بارًا بالناس رؤوفًا بالفقراء؛ فكان يعالجهم ويمنحهم الدواء من ماله الخاص حتى انتشرت شائعة أنه لحذقه الكيمياء قد نجح في إيجاد طريقة لتحويل المعادن الأساسية إلى ذهب، ونسبوا إلى ذلك سر ثرائه وإنفاقه النقود على الناس دون حساب، الأمر الذي وصل إلى أسماع الرازي فضحك منه ووصفه بالمستحيل! وكان آخر ما كتبه في سيرته الفلسفية: “إذا كان الناس لا يستنقصونني في الجزء العلمي فأولى الأشياء أن ينتفعوا بعلمي ولا يلتفتوا إلى سيرتي”…

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد