تطالبون بإسقاط النظام والرموز السياسية الفاسدة، التي أوصلت لبنان إلى ما هو عليه اليوم، متناسين أو ربما غير مدركين خطورة تفصيل لن يسمح لثورتكم أن ترى النور، لا اليوم ولا بعد ألف سنة، ما لم تجدوا له حلًّا ثوريًّا يوازي عظمة ثورتكم المباركة، التي ملأت الساحات وشاشات التلفزة، وتخطّت الحواجز الطائفية والحزبية.
اسألوا من كان بها خبيرًا. اسألوا إخوانكم السوريين، الذين ثاروا على إحدى أعتى الديكتاتوريات المتبقية في العصر الحديث. الذين بدأوا ثورتهم سلمية بمطالب إنسانية لا تقبل الانقسام حول أحقيتها، ثم تحولت إلى حرب ضروس التهمت الحجر والبشر، تدخلت فيها مئات الأيادي العابثة، أيادٍ تضخ المال والسلاح للمعارضة، وأخرى تقصفهم عن بكرة أبيهم، وغيرها تغذي الإرهاب لتحول الحراك الذي بدأ مدنيًّا سلميًّا إلى كارثة إنسانية لا مثيل لها، وإلى بلدٍ يتربع على قمة الدول الأكثر بؤسًا في العالم.
إخوتي اللبنانيين، لماذا حصل ما حصل في سوريا؟ ربما لا تتسع هذه السطور لسرد التراكمات والأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتحليلات التجاذب الدولي، والمطامع العالمية، وصراع الأقطاب، وكل هذا الكلام الكبير الذي يتلوه على مسامعنا جهابذة الفكر والسياسة منذ نحو تسع سنوات. لكن الحقيقة أبسط من ذلك بكثير، صدّقوني، ويمكن أن تلخّص في جملة واحدة مأخوذة عن مثل سوري قديم يقول: «دود الخل منّو وفيه».
دود الخل يا أصدقائي هم جمهور غفير من السوريين جاهروا بمساندتهم للنظام منذ اليوم الأول للحراك، وأطلقوا أبشع التهم والألقاب تجاه من يعاديه أو يحاول زعزعة عرشه. هم العكاز الذي ارتكز عليه النظام منذ قيامه قبل نحو 50 عامًا وما يزال. ليسوا بالضرورة من المستفيدين من السلطة وأعوانها، فهذا أيضًا «كليشيه» يردده بعض المحللين والفهمانين بأمور الفكر والسياسة. بل هم جماعات واسعة من البشر المدجنين عبر عشرات السنين، ربما يعيشون ضمن الطبقات الاجتماعية الدنيا أو العليا في المجتمع، لا فرق، فعقولهم مبرمجة لرفض أي تغيير أو كفر بأصنامهم التي اعتادوا عبادتها دون مقابل، حتى باتوا يعادون أي ثورة أو انتفاضة في أي بلد؛ بوصفها مؤامرة تهدف إلى تدميره.
الجميع يتحدث عن التدخل الإيراني والروسي، وعن دعم النظام من قبل مليشيات بعينها، كحزب الله والمرتزقة العراقيين والأفغان، وما إلى ذلك، بوصفهم حالوا دون سقوطه ونجاح الثورة، ولكن السؤال البسيط المطروح، هل تكفي ميليشيات وجيوش الأرض مجتمعة لكسر إرادة شعبٍ حر متماسك، قرر رفض الذل واجتثاث الفساد وسلاطينه عن آخرهم؟!
مَن الأيدي التي قمعت المظاهرات السلمية منذ يومها الأول حتى حولتها إلى مواجهات عسكرية دامية؟ من الذي اعتقل وعذّب وسلب ونهب؟ من الذي كتبَ وحكى وغنّى ومثّل وجمّل ملامح القاتل عبر وسائل الإعلام والدراما، وشتى أنواع الفنون؟ من الذي نزل إلى الساحات وهتف باسم القائد الرمز والحزب الواحد في وجه من ثاروا عليه؟ من الذي خوّن الناس وطالب بشعار «اضرب بيد من حديد»؟ من الذي استمتع باستعراضات مقاتلات بلاده وهي تقصف مدنها وبلداتها وقراها بحجة احتوائها على المندسين المخربين؟
أصدقائي اللبنانيين، ما زلتُ أراقب تحركات انتفاضتكم التي عمّت البلاد من شمالها إلى جنوبها. تحركات ما تزال فتية وصاخبة، نقية تنبض بالحياة، ضمن مشهد دراماتيكي جميل ربما يحجب حقيقة مرة لبعض الوقت، حقيقة أتحدث عنها منذ البداية، وها قد بدأت إرهاصاتها تطفو على السطح ببطء خبيث، فمنذ اليوم الثاني انتشرت مقاطع فيديو في وسائل التواصل الاجتماعي تظهر «طلائع الدود» وهي تبدأ بالانتشار في بعض المناطق لتسكت كل صوت يعلو على صوت الزعيم. قيل إن منها من يتبع لحركة أمل وحزب الله، وأخرى للحزب التقدمي الاشتراكي. وتطور الأمر أمس الاثنين إلى جولة استعراض قوة «مقننة» من قبل مجموعة دراجات نارية استقلها مناصرو حزب الله وحركة أمل رافعين أعلامهم الحزبية التي غابت عن المشهد العام في الأيام الأخيرة. جابوا شوارع العاصمة بيروت وحاولوا التشويش على التجمعات الكبرى للمتظاهرين وسط المدينة. هي مجرد إشارات ما تزال خجولة، ولكنها ستكشر عن أنيابها عند الضرورة، عند الشعور بخطر حقيقي يهدد عروش سادتهم.
وليس منفصلًا عن ذلك ما ورد في خطاب حسن نصر الله الأخير، الذي هدد من خلاله بنزول ما أسماها «جماهير الحزب» عند الضرورة القصوى قائلًا: «نحن حزب كبير وتحركاتنا ليست بسيطة. حين نود النزول إلى الشارع لن يكون ذلك قرارًا صغيرًا، بل سيذهب بالبلد كله نحو مسار مختلف. هذا الحراك ممكن أن يأتي وقته، وحينها ستجدوننا كلنا في الشارع، في جميع المناطق وبقوة، وسنغير كل المعادلات». وكأن تلك الجماهير التي قصدها السيّد تتبع لجمهورية أخرى غير التي تتحدثون عنها وتطالبون بحياة أفضل لأبنائها! وكأن مظاهراتهم وتحركاتهم ستكون قوية ومؤثرة، إن حصلت، وليست كمظاهراتكم التي لا تقدم ولا تؤخر كما يفهم من السياق!
هي إذن بداية استغلال لموجة الغضب الشعبي العفوية وفرصة للتصويب على الفرقاء، لتحويل الحراك إلى مواجهة سياسية وربما دموية، لا سمح الله. لذلك تذكروا أنكم تواجهون طبقة سياسية امتهنت المكر والمراوغة منذ عقود، ورغم تشرذمها ظاهريًّا، يمكن أن تتوحد ضد موجة تهدد أصل وجودها. لكن تذكروا أيضًا أن كل ذلك لا يمكن أن يمر دون الاعتماد على دود الخل، فاحذروه، واعملوا بجد على تحويل غضبكم المشروع إلى فعل سياسي مستدام، وبرامج اجتماعية ومطلبية محددة، حتى لا تتلاشى آمالكم المبعثرة وتترحموا على زمن الفساد والفاسدين.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست