تحليلات وتحليلات وعشرات الآلاف من المستبشرين بسقوط أمريكا من مقامها العالمي؛ بسبب الفيروس، وجلوس الصين مكانها. وأكثر أولئك اعتدالًا وموضوعية يقولون بعالم ستقتسمه الصين وأمريكا، مبشرين بأفول نجوم الاتحاد الأوروبي، وتراجع روسيا وراء الصين تابعة ومكملة، ويذهبون لحد التبشير بخريطة عربية جديدة تنتقل فيها مراكز القوة من دولة إلى أخرى.
وبعض أولئك المخدوعين بالصينيين، أو بسطاء التفكير ممن لا يطلعون على دراسات المراكز البحثية، أو ممن نشترك معهم في كره أمريكا وبغضها بغضًا شديدًا، مع اختلافنا معهم في الحكم مبكرًا على الأحداث، وكذلك معرفتنا بالنظام الصيني المستبد لدرجة لا يتخيلها العربي الحانق على ديكتاتورية وطنه. يرون أن التحرر من القبضة الأمريكية وانفلات الأمور من يد الاتحاد الأوروبي، خصوصًا أمور القارة الأفريقية، سيحرر الشعوب الضعيفة ومستعمرات الغرب القديمة لتنطلق نحو تطوير نفسها، وذلك بمساعدة سيد العالم الجديد المحتمل، ألا وهو التنين الصيني.
هؤلاء في نظري والذين يفكرون هكذا، خاصة وأنهم مواطنو دول مستضعفة منذ قرون، ليسوا إلا عبيدًا يفكرون في تغيير سيد بسيد آخر، ويرون كما يرى كل سجين في جلاده، أنه أسوأ رجل على وجه الأرض، ولا يستطيع تخيل أن العالم فيه من هو أقسى منه.
العالم بعد كورونا، سيشهد توترًا أقسى وأدهى وأمرّ من كورونا، وسترجع تلك الأجواء التي عرفها العالم قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وعرفها كذلك بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001.
إنها أجواء من معي ومن ضدي، وسيسطف العالم في ثلاثة صفوف:
1- صف مع الصين يعرف ما يريد، متأكد من قوته يريد الدفاع عن وجوده وعن مستقبله، ويبحث عن أماكن توسع جديدة، وستكون تلك الدول أغلبها من ذوي البشرة الصفراء، وربما تقف معهم روسيا في لباس المستشار الاستراتيجي، وربما الداعم اللوجيستي.
2-وصف يقابله تقوده أمريكا يعرفون جيدًا أنهم يملكون القوة الأصيلة، ويظنون أنهم يملكون الشرعية التاريخية والحضارية لحكم العالم. ويكون ذلك الصف مكونًا من أمريكا وذوي البشرة البيضاء، ومن الدول الاستعمارية القديمة، التي تشكل دعائم الاتحاد الأوروبي، هذا الأخير الذي يراهن البعض على تفككه قريبًا بسبب تداعيات أزمة كورونا، وفي رأيي أن الاتحاد الأوروبي سيستمر ضرورة اقتصادية مُلحَّة، وحتمية تاريخية لا رجوع فيها، والأوروبيون يعلمون جيدًا أن الاتحاد بمثابة سفينة نوح لهم، وخاصة في مرحلة ما بعد كورونا، إذ ستنطلق حرب التموقع الجديدة، وستضرب خريطة العالم الجيوسياسية ضربًا شديدًا، وربما أسمي المرحلة القادمة وأقترح مسمى مرحلة الانجراف القاري، أو مسمى مرحلة إعادة الاستقطاب الجيوسياسي.
3-أما الصف الثالث فسيكون مكونًا من الدول التقليدية، دول متخلفة أو في طريق النمو، وهذه الدول على الأغلب هي من تملك بنك العالم الطبيعي، في مقابل بنك العالم المالي والتكنولوجي الذي تملكه الدول الكبرى.
هذا الصف الثالث الذي سينتشر داخله فزع جديد، وربما يحاول دفع الأضرار والخطر الناجم عن تصارع عماليق العالم الصناعية، بالاصطفاف مع جانب من جوانب الصراع، وسيكون هذا أكبر خطأ استراتيجي ستقع فيه هذه الدول، وأتحدث هنا عن الدول العربية خصوصًا.
هؤلاء الحالمون من هذه الدول ربما يظنون أن قرارات الدول الكبرى تتخذ حسب نزوات أشخاص، كما عهدوه في حكامهم، ولكن غاب عنهم أن كل قرارات تلك الدول تتخذها مؤسسات تشريعية، ودوائر قرار، ومراكز بحوث.
وإذا عرفوا ذلك ربما استطاعوا أن يفهموا أن بعض القرارات قد تدرس لسنوات قبل إعلانها، إذا لا مجال لقرارات اعتباطية، وقرار الحرب الذي يتخذ غدًا، قد أخذ قبل سنوات خارج ما يظنه الناس ظروفًا ومسببات.
الدول العربية مطالبة بالتجهز لتداعيات كورونا، والركود الاقتصادي العظيم الناتج منه والذي سيضرب الدول الغربية على رأسهم أمريكا، وكذلك يجب أن تستعد للاستقطاب الشديد الذي ستخضع له كإلكترونات ضعيفة، في مجال تنافر مغناطيسي شديد سيحدث بين أمريكا والصين، والأذكى في هذه الدول من سيعرف كيف يوازن في قراراته، ويعرض نفسه كمجال للتبادلات المالية، وخصوصًا أن المنطقة العربية منطقة تحتاج إلى إعمار حقيقي كسوريا والعراق واليمن، وكذلك دول المغرب العربي التي تحتاج إلى بنية تحتية ضخمة من أجل إقلاعها، ومن المؤشرات المشجعة على ذلك أنها تملك من الموارد الطبيعية والبشرية ما يجعلها مرشحة لتكون منطقة استثمار وربح محققين.
لا أستطيع فهم فرح وزهو بعض الشباب بقرب سقوط أمريكا؛ لأنني أراها أحلام شباب لا توقعات حكماء، من يظن أن الصين تستطيع تحطيم أمريكا، فهو لم يطلع على قوة أمريكا الحقيقية، ولا على ضعف الصين الحقيقي.
نعم أمريكا ربما تحتاج إلى حرب لإعادة إقلاع ماكينتها الصناعية والتكنولوجية العملاقة، ولتفعل ذلك يجب أن تقدم حججًا على ذلك، وربما إعلان أرقام ومؤشرات اقتصادية مبشرة بالخراب سيكون أقوى ذريعة لإقناع الأمريكي للذهاب للموت في بحر الصين من أجل خير أسرته ووطنه وثقافته وطريقة حياته، خصوصًا وأن الوطنيين الأمريكيين المتشددين كلهم متفقون اليوم على أن العدو الأول هو الصين.
حرب أمريكا القادمة ستعيد كل الساعات للصفر، وسيقتنع الحالمون بفجر شرقي مع التنين الأحمر الصيني بأن القوة ليست في ضخامة إنتاجك، بل في تحكمك في تكنولوجيا الإنتاج، وحتمًا ستخرج أمريكا منتصرة لكنها ستخرج أيضًا جائعة جدًّا لدرجة أنها ستبحث عن مجال استثماري يسكت جوعها، وستجد في الجغرافيا التقليدية منبعًا لها، إنه الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث ستعرف توسعًا أكثر من ذي قبل، لكن هذه المرة ستكون الصين حاضرة بشكل واضح، إذا عرفت هذه الدول استغلال مخرجات الحرب بذكاء، وذلك من أجل التخلص من ربقة المستعمر التاريخي، وفصل الترابط معه إلى الأبد.
فيما يخص الجزائر، فالقرار التاريخي الذي سيغير كل شيء فيها هو فك الترابط بينها وبين فرنسا، سياسيًّا ولغويًّا واقتصاديًّا، والفرصة سانحة تاريخيًّا في زمن الكورونا، استعدادًا لتداعيات الحرب الأمريكية الصينية.
هذه الحرب الخاطفة التي ستدعو الجميع إلى الانتظام حسب المصالح الجديدة، والجزائر إذا عرفت استغلالها وطرح نفسها كسوق استثمارية للقوى الحقيقية المستقبلية، ستضرب عدوها التاريخي ضربة تاريخية، تعد استكمالًا لاستقلالها، ولكن لا يجب بأي حال من الأحوال أن تكون طرفًا سياسيًّا مساندًا لطرف من أطراف النزاع، إذا أرادت أن تكون مسرحًا لحرب مالية اقتصادية استثمارية ستندلع بعد الحرب العسكرية الخاطفة.
لكن الأهم في كل هذا كيف ستستقل الجزائر بقراراتها، وتجعل من الصين فرصة للانطلاق تكنولوجيًّا، والاستفادة من خبراته التكنولوجية، ولا تجعله مجرد بديل لشريك اقتصادي آخر، ويجب أيضًا أن تستغل إبادة أمريكا للقرار السياسي العالمي بأن تضرب فرنسا ضربة قاضية نهائية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست