رغم ما يبذل من مجهود، لا أرى أننا قادرون على الوقوف أمام موجات البعد عن الدين، سواء كانت بالبعد عن مظاهر التدين أو الإلحاد، وإن استطعنا التصدي لتلك الموجة فلن يكون إلا تصدٍ لظهورها وليس لأسبابها، وسيظل من يريد أن يبتعد عن الدين يحمل الدين كعبء وإن لم يصرح بذلك. ولا أرى أننا نخدم الدين ونخدم الدعوة بالحفاظ على هؤلاء ضمن صفوفنا وإن رفضوا هم ذلك، ولا أرى أن الصفوف قوية بحيث تصمد وهي تحوي بداخلها المترددين والمشككين.
هناك مشكلة، لابد أن نعترف بها، تميز الدين عمومًا والدعوة الإسلامية خصوصًا بالمذهب الأخلاقي في التعامل مع الأمور، وعندما قامت ثورات الربيع العربي، ظهرت أفعال الكثير من المتدينين بخلاف ما يدعون، فرأينا من أتباع ما يسمى التيار الإسلامي كما رأينا من أتباع الدولة المتدينين تبرير الميكافيلية للحفاظ على أهداف يدعون أنها نبيلة، بل وجدنا تبريرا للدم والإسراف في القتل في بعض الأحيان. لم يكن ذلك من عوام المتدينين، ولكنها كانت من رموز تصدرت ونخب تميزت خلال فترة ما قبل الثورة كواجهة للدين. كما رأينا صفوفًا ممن يسمون الدعاة الجدد والذين لم يتوقفوا عن سرد الرويات والقصص والحكايات عن الشجاعة في الإسلام وعن فضل السلف والأولين في الدفاع عن الحق والمستضعفين، فلم نجد منهم إلا صمتًا فسره البعض على أنه صمت مخزٍ يخالف ما يدعون له.
نحن أمام تجربة حية للمتدينين من جوانب عدة، وكأن الثورة اختبار أوجده الله لصفوف المتدينين، ليختبر من طابق حاله مقاله ولمن عمل بما دعى الناس إليه، وللأسف ظاهر نتيجة ذلك الاختبار هو الفشل، رغم أن ظاهر الحال عندما قامت الثورات هو الميل للتدين، وهو الأمر الذي يدفعنا للسؤال: لماذا فشل المتدينون؟ ولعلي في هذا المقال أجيب على الجانب الأخلاقي لهذا السؤال، فالجانب السياسي خضع لقوانين التغلب البشرية وليس لقوانين الحق والعدل، وأقصد بالجانب الأخلاقي هو سلوك المتدينين وقابلية كسب الآخرين في صفوفهم.
فشل المتدينون – إلا من رحم ربي – لأنهم أساؤوا قيادة موجة التدين الماضية، واهتم الدعاة بتقديم خطاب سردي وعظي عن السير والملاحم والبطولات، واستطاعوا أن ينافسوا مسلسلات رمضان وفوازيرها بخطاب عاطفي استمال قلوب الكثيرين وحببهم في الدين، ولكن ذلك النمط الدعوي لم يقم الدين في قلوبهم بركائز صحيحة، لأنه خطاب غير معلم للناس – رغم كونه خطابا جاذبا لهم – وذلك النوع من الخطاب يسمى بـ”الرقائق” وهو أمر حسن ومطلوب لصلاح القلوب وإعمارها ولكنه ليس كل الدين وخصوصًا في مجتمع ضعف فيه التعليم الديني النظامي وهمشت مواد الدين كمًا وكيفًا. وتلك القلوب التي أسس الدين فيها على أساس عاطفي كان من السهل أن تردد من جديد عندما تتعرض لواقع مرير خالف ما كانوا يعتقدونه في الدين.
فشل المتدينون – إلا من رحم ربي – لأنهم أساؤوا تقدير الأولويات بعد ثورة يناير، ولم ينشغلوا في حماية وتأمين حق الدعوة إلى الله وعزل الخطاب الديني عن سلطوية الدولة، وزيادة مساحة الاختلاف العلمي والمنهجي في المسائل الدينية وحسمها بالوسائل العلمية، ولعلهم ظنوا أن المناخ العام أميل للتدين وأن الأولوية للدعوة خيار خاطئ ولعلهم انخدعوا بنتائج بعض الاقتراعات السياسية ولم يخطر في بالهم أن المواطن المصري متقلب المزاج يستطيع بكل سهولة أن ينتخبهم اليوم وأن يدعم جلادهم في الغد.
فشل المتدينون – إلا من رحم ربي – لأنهم لم يقدموا النموذج الحي لآداب الاختلاف، والنموذج الحي للتراحم، والدعوة باللين، وظنوا أن رد السباب بالسباب بطولة، وأن رد الهمز واللمز بمثله شجاعة، وما إن فعلوا ذلك حتى سقط عنهم أهم ركائز دعوتهم وهو المذهب الأخلاقي في التعامل مع الأمور، وقد استغل مخالفوهم ذلك للطعن في مذهبهم ودعوتهم.
إن ارتدادهم عنا، وكفرهم بنا نتيجة حتمية لما قدمنا، ونحن نتحمل جزءا كبيرا من وزر ذلك الارتداد، ولكننا لن نستطيع أن نحل تلك المشكلة بالعصبية تجاه ما يفعلون، دعهم يمرون، دعهم يخوضون تجربتهم حتى يصلوا لحقيقة أن الدين مخالف لتلك التجربة الحية المريرة، حينها سيعودون، ستدمع أعينهم عندما يسمعوا نداء الله لهم في غمرة انشغالهم بالحياة المادية، علينا أن نستعد لتلك العودة، أن نصلح من أنفسنا ومن أخطائنا، أن نراجع تجربتنا، أن نكون خير من ينتظرهم عندما تبدأ الموجة القادمة من التدين.
دعونا ننشغل بأنفسنا، بمناهجنا، بالخطاب الدعوي الجديد الذي لابد أن يؤسس على العلم وليس على الرقائق، دعونا نقيم المدارس ونجمع الطلبة من جديد حول المشايخ والعلماء، دعونا ننشغل في تحرير الدين من سلطوية الدولة، من أن يؤشر بالموافقة على مواضيع الخطب في اجتماعات مجلس الوزراء، حرروا المنابر لتكون لله فقط، حرورا الأوقاف الإسلامية من سلطوية الدعوة. نقوا الصفوف، وألينوا القلوب، وانتظروهم فهم لا محالة عائدون، وتعس من لم يجد استقبالهم من جديد، وتعس من كرر أخطاءه ولم يتعلم مكابرًا.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست