اشتقت كثيرًا لآخر مرة جلسنا فيها سويًّا، أتذكر ذلك، اتركْ ذلك القلم الذي بيديك وركز انتباهك معي. عقلي ليس بإمكانه التوقف عن عقد مقارنات، كل الطغاة يشبهون بعضهم البعض كلهم مثال لرجل واحد, أحيانًا تراودني عنهم فكرة شيطانية أنهم يملكون كتابًا قد درسوا ما فيه من علوم الطغيان والظلم والقتل ثم انتقل كل منهم إلى موقعه ليؤدي الدور الذي أعجبه أو اختير له.

أترى ما بيدي الآن إنها صفحة قديمة من جريدة الشروق المصرية بتاريخ 13 مارس 2014, تحديدًا الصفحة الأخيرة والتي تحوي مقالًا بعنوان «تحذير للمصفقين» يحكي فيه أن زعيم كوريا الشمالية أعدم زوج عمته الرجل الثاني في النظام لأنه لاحظ أن الرجل لا يصفق بحرارة في أثناء خطابات الزعيم الأمر الذي جعله متهمًا بمعاداة النظام الاشتراكي والضلوع في مؤامرة لقلب نظام الحكم!

صوت الطائرات مزعج أليس كذلك، لطالما شعرت أنه يخترق أذني، دعك من هذا الآن وتناول قهوتك قبل أن تبرد،تلك الحادثة أشعرتني أن رواية 1984 للمبدع جورج أورويل ليست خيالًا كما اعتقدت من قبل لكنها في النهاية رواية، دعني أخبرك بما هو واقع.

لطالما كان الحديث الدائر بين الناس أن بداية السيطرة الأمريكية على العالم كانت بعد حادثة هيروشيما وناجازاكي، ولكن هذا ليس صحيحًا فحتى ذلك التاريخ كانت بريطانيا صاحبة اليد العليا في العالم واستمر ذلك حتى 1947.

في شتاء 1947 كانت بريطانيا تعاني من نقص فادح في موارد الفحم بسبب سوء الأحوال الجوية، وتراكمت الثلوج إلى حد أعاق وسائل النقل كليًّا مما تسبب في إتلاف محصول القمح، ونتج عن هذا كله توقف مصانع عديدة عن العمل، وترك حوالي خمسة ملايين عامل بدون عمل, وزيادة مشاكل التأمين الاجتماعي، وتخفيض ساعات العمل الحكومي، وأصبحت بريطانيا أعجز عن حل مشاكلها الداخلية.

اتصل السكرتير الأول في السفارة البريطانية في واشنطن «سيشل» في فبراير 1947 بالسيد «لوي هندرسون» مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشئون الشرق الأدنى وأفريقيا، وطلب منه مقابلة هامة وفي أثناء المقابلة سلمه رسالتين هامتين.

كان محتوى الرسالتين هو «عزم بريطانيا على إنهاء وصايتها التي دامت ما لا يقل عن قرن من الزمان على بعض أجزاء العالم فحكومة جلالة الملك تواجه أزمة مالية وعلى الولايات المتحدة أن تعمل على سد هذا الفراغ قبل أن يسبقها إليه الاتحاد السوفيتي».

ناهيك عن أنهم تعاملوا مع الدول المسيطر عليها على أنها أمانات تسلم باليد من احتلال إلى وصاية وتبعية، لكن الكارثة الكبرى فيمن اختاروا أن يسيروا على ذلك النهج في الوقت الذي يعلنون فيه الممانعة والمقاومة والوطنية وتلك الأفلام السخيفة التي ما عادت تبكي أحدًا يا صديقي.

في مصر على سبيل المثال، تحديدًا في انقلاب 1952 وبعدما قام عبد الناصر بعزل محمد نجيب وتحديد إقامته، عمل على أن يصنع من نفسه بطلًا وزعيمًا؛ فعقد اتفاقية الجلاء مع بريطانيا والتي فسرها الشعب المصري آنذاك أنها ترجع لبطولة عبد الناصر ولكنهم لم يكونوا يعرفون أن الأمر مقرر سلفًا قبلها بسنوات، وأن بريطانيا في تلك الآونة كانت في حال يرثى لها حتى أن مياه المجاري كانت قد وصلت حتى بوابات مجلس العموم البريطاني، فكان الجلاء أمرًا بديهيًّا وبريطانيا كانت مطمئنة أن الحاكم الجديد لمصر صديق أمريكا الوفي، فلا بأس من أن يكون الانسحاب العسكري تمهيدًا لسيطرة سياسية في حقبة جديدة.

لابد وأنك سمعت أن الخبير الاقتصادي محمد نبيه حينما قال أن مصر سددت ديونها المستحقة على قناة السويس في 1935 وأنه منذ ذلك التاريخ صارت مصر تمتلك القناة بالفعل، وأن كل ما فعله عبد الناصر هو طرد الموظفين الأجانب من القناة، لكن الأمر كان يتطلب مؤتمرًا جماهيريًّا عظيمًا يعلن فيه تأميم الشركة المصرية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية، لكن كيف يكون ذلك ومصر تمتلك القناة أصلًا!

وصف مايلز كوبلاند عبد الناصر بأنه الرجل الذي كانت تتمناه أمريكا, نموذج بحد ذاته لاستمرار النفوذ الخارجي وتنفيذ الأوامر وفي نفس الوقت يكون الشعب راضيًا عن ذلك ومعتقدًا دائمًا أن الخطر قريب، وأن الزعيم القائد هو المخلص من هذا الخطر. لكن ماذا يكون الأمر لو أن الزعيم القائد فاشل ضيع سيناء والسودان وغزة اللائي كن تحت حكم مصر.

كان لابد من كسب مزيد من التعاطف, حادث يشعر الناس أن هناك خطرًا يحدق بالزعيم. حادث المنشية إذن رجل ذو قلب حديدي يظهر من بين الجموع وأمام أعين الحرس المدججين بالسلاح الذين يحمون الزعيم, يرفع سلاحه ليقتل عبد الناصر ولكنه يفشل.

لابد وأن تكون النهاية لنموذج عبد الناصر نهاية هادئة, بضع قطرات من السم توضع في فنجان قهوته. من فعل ذلك؟ لا أحد يعرف!

على حديث القهوة اسمح لي بجلب المزيد من القهوة.

أخبرتك إنهم يشبهون بعضهم البعض بشكل مخيف وكأنك في جلسة سايكودراما على طريقة تبادل الأدوار.

في سوريا، وصل أحد مسئولي مركز التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأمريكية إلى دمشق, كان ذلك في سبتمبر 1947 والتقى آنذاك بالرئيس شكري القوتلي وسياسيي الحكومة وتشاور معهم في رغبة الولايات المتحدة أن تفسح الحكومة السورية المجال لمزيد من الحريات والديمقراطية للشعب، وإنهاء حالة القمع السياسي، لكن الردود كانت مخيبة لآمال أمريكا.

كانت المخابرات الأمريكية ترى أن الأمر يتجه نحو سيناريو من اثنين؛ إما ثورة مسلحة بدعم من السوفيت، أو انقلاب عسكري بدعم من الجيش الأمريكي. لا تندهش هكذا، نعم يا صديقي الصراع بين أمريكا وروسيا داخل سوريا قديم جدًّا.

قام حسني الزعيم رئيس أركان الجيش السوري بدعم من الجيش الأمريكي بالانقلاب في 30 مارس 1949 وكان صاحب الفكرة الميجور ميد عضو فريق العمل السياسي بالخارجية الأمريكية، وهو من اتفق مع حسني الزعيم على ذلك، وفي تلك الأثناء كان حسني الزعيم هينًا لينًا مهادنًا مع أمريكا وسياسييها حتى تولى منصب الرئيس، فتفاجأ السياسيون الأمريكيون بأنه صار متكبرًا مغرورًا ففكرت الحكومة الأمريكية في استمالته مرة أخرى عن طريق المساعدات المالية والعسكرية، لكن هذا الأمر لم يفلح. أعلنت أمريكا أنه يجب أن يبدأ البحث عن بديل لحسني الزعيم الذي اقتربت نهايته. لم تكن نهاية حسني الزعيم هادئة مثل عبد الناصر، لكنها كانت صاخبة وما تبعها كان أكثر صخبًا!

في صبيحة الرابع عشر من أغسطس 1949 قام مجموعة من ضباط الجيش السوري بقيادة سامي الحناوي اسمًا وأديب الشيشكلي فعلًا بمحاصرة بيت حسني الزعيم، وقتلوه ودفنوه في المقبرة الفرنسية.

المضحك في الأمر أنه بعد ذلك تولى أديب الشيشكلي منصب الرئاسة وتم قتله على يد الجيش أيضًا، حتى أن مؤرخي هذه الفترة قالوا إن كل من كان يسيطر على دبابة وبضعة عساكر تحرك للقيام بانقلاب.

هذا هو تاريخهم، من المؤكد الآن أنك تعرف لماذا أكرههم وأن هذه كانت بداية الخلافة العسكرية المستمرة حتى الآن. التاريخ لا يمحى يا صديقي, أتريد مزيدًا من القهوة معي.

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

عصر التسليم
عرض التعليقات
تحميل المزيد