في مساء الجمعة الثالث عشر من نوفمبر من العام 2015، عاشت فرنسا ليلة دامية خلفت ما يقرب من 128 قتيلًا و300 مصاب، بينهم 80 في حالات حرجة، إثر سلسلة من التفجيرات وعمليات إطلاق النيران واحتجاز رهائن بعدة مناطق متفرقة من عاصمة النور باريس ، و بلغت تلك الحوادث الإرهابية 7 حوادث متعاقبة ومنظمة.
البداية كانت في تمام التاسعة مساءً بتوقيت فرنسا، إذ اقتحم مسلحان مطعم “لوكاريون” الواقع بـ”الدائرة العاشرة” في باريس، وبادرا بإطلاق النيران من أسلحة “كلاشينكوف” على رواد المطعم، مما أسفر عن مقتل 10 فرنسيين وإصابة آخرين، وقرابة العاشرة إلا الربع مساءً، شهد محيط استاد “دي فرانس”، الذي كان يستضيف مباراة فرنسا وألمانيا الودية، بحضور آلاف المشجعين والرئيس الفرنسي “فرانسوا أولاند”، 3 انفجارات متتالية، دفعت السلطات لإخراج الرئيس إلى قصر “الإليزيه” ومنها إلى “اجتماع الأزمة” الذي ترأسه بوزير داخليته ورئيس الوزراء.
وبعد “تفجيرات الاستاد” بدقائق، شهد عدد من شوارع العاصمة ظهورًا للعناصر المسلحة التي أطلقت النيران على المارة وفي الهواء بكثافة، منها شارع “شارون” الذي شهد إطلاق نحو 100 عيار ناري من قبل مسلحين اثنين، إلى جانب الاشتباكات الدموية التي شهدها محيط “متاجر آلز” ومنطقة “متحف اللوفر” و”مركز بومبيدو” بوسط العاصمة، وتطورت الأحداث بعد ذلك، وتجمع أكثر من 60 مسلحًا بالقرب من مسرح “باتكلان” القريب من شارع “بوليفار فولتير”، ثم دخله بعضهم بقوة السلاح، واحتجزوا ما يقرب من 112 رهينة داخل المسرح، الذي كان يشهد عرضًا لفرقة “إيجل أوفديس” بحضور 1500 متفرج، وبحسب مراسل قناة “أوروبا 1” الذي كان موجودًا داخل المسرح، فإن نحو 3 مسلحين غير ملثمين دخلوا المسرح، وبدأوا في إطلاق النار بشكل عشوائي على الحاضرين لمدة من 10 دقائق إلى ربع الساعة، مضيفًا “انتشر الرعب بين الحاضرين، وحاول الجميع الهرب، غير أن التخبط أعطى المسلحين الوقت لتعبئة أسلحتهم بالرصاص 3 مرات”.
لم تثر الحادثة ذاتها الاستغراب والاندهاش، بقدر ما أثاره كم الشماتة والتشفي الصادر من المصريين، ومن رموز الإعلام المؤيدين للنظام الحالي، فكتبت الإعلامية “لميس الحديدي” ساخرة على حسابها على موقع twitter: “عاوزين نبعت لجنة تفتيش على المطاعم في باريس، كده قلق”، بينما كانت هي بنفسها تندد بالشماتة في الموت في حادثة مقتل النائب العام منذ شهور قائلة “قلوبهم قاسية، حتى في الموت يشمتون، تناسوا أن للموت حرمة وقدسية لا تحتمل السخرية، الشماتة في الموت ليست من أخلاق الإنسان”، وكتبت الإعلامية الكويتية “فجر السعيد” المعروفة بدعمها الشديد للنظام المصري على الموقع ذاته قائلة: “شرطة باريس تدعو المواطنين إلى عدم الخروج إلا للضرورة القصوى، هههههههه شمتانة بصراحه”، ثم تبعتها بتعليق آخر قائلة “أطالب الفرنسيين في ضبط النفس والمحافظة على أرواح الإرهابيين ولا بديل عن الحوار وإعلان الطوارئ، ومنع التجول يتعارض مع حقوق الإنسان” وتبعتها برموز ضاحكة.
وبالرغم من أنه في الوقت الذي حظرت فيه ألمانيا وبريطانيا السلاح عن مصر بعد 3 يوليو، وفي الوقت الذي جمدت فيه أمريكا جزءًا من مساعداتها العسكرية الدورية، وأوقفت صفقة الطيارات الأباتشي، كانت فرنسا تتفاوض مع النظام الحالي على صفقة طيارات “الرافال”، وبعدها صفقة حاملات الطائرات “المينسترال”، بل حضر رئيسها “فرانسوا أولاند” بنفسه حفل افتتاح ما يسمى بقناة السويس الجديدة، وكان أهم شخصية تحضر هذا الحفل، وفي الوقت الذي كان الحليف الروسي يجلي رعاياه عن مصر، ويحظر الطيران المصري من دخول أجوائه، ويفعل الحليف البريطاني المنتظر الأمر ذاته ويجلي رعاياه، في الوقت نفسه الذي كان فيه رئيس النظام المصري في ضيافته.
لم يتخذ الفرنسيون أي رد فعل على الحادث، وفي الوقت الذي كانت صحافة بريطانيا وأمريكا تعنف النظام المصري يوميًا على صفحاتها، كانت الصحافة الفرنسية تصمت عن تناول الأوضاع في مصر خيرًا أو شرًا، لكن كل ذلك لم يمنع أنصار النظام الحالي من الشماتة العلانية والتشفي في الحادث الإرهابي في باريس، بل بدا واضحًا أن إعلان حالة الطوارئ في أماكن متفرقة في العالم في الأسبوع الماضي كتبعية لكارثة ما – وخاصة فرنسا – يعطي نشوة وسعادة للمصريين من مؤيدي النظام، بدون وجود سبب واحد مباشر يدفعهم لهذه الأفعال، التي قد تبدو للوهلة الأولى أفعال صبيانية، اللهم فقط بسبب العدوانية والشراسة تجاه كل من ليس معهم وفي صفهم، وكأنها حرب مع الجميع بلا أي منطق أو تفكير، هي فقط عدوانية القزم وشره وحنقه على كل من حوله، النابعة من عقدة الاضطهاد ورهاب الارتياب الجماعي الذي تصاب به الدول الفاشلة.
فمع اشتداد السجال السياسي وسقوط الأنظمة الفاشلة في العديد من الأزمات، يكمن دائمًا المهرب في الأعداء الخفيين الذين يتآمرون على الدولة واستقرارها، فالجميع بلا استثناء يتآمرون على الوطن، وهم السبب في محنته وقلة حيلته، بدأ من جميع المعارضين وكل حركات المعارضة، الذين يصنفهم النظام على أنهم “أعداء الداخل”، مرورًا بـ”المؤامرات الدولية” التي يشنها كل من يرفض الاعتراف بشرعية النظام ومن ينتقد أداءه من دول العالم مثل أمريكا، قطر وقناة الجزيرة، تركيا وغيرهم، وحتى حين تعجز قريحة النظام عن تخيل أعداء حقيقيين في مواجهة الكوارث الطبيعية، يلجأ إعلاميو النظام إلى اختراع أعداء وهميين مثل “مجلس إدارة العالم”، “الماسونية العالمية”، و”حروب الجيل الرابع” غيرهم.
ردود الأفعال هذه، تتجلّى في حالة من التوحد حول الذات، واتخاذها معيارًا لفهم وتفسير كل الأحداث والظواهر، فكلّما ثارت مشكلة سياسية أو اجتماعية في البلاد، لا يوجد سبب آخر لتفسيرها إلا المؤامرة الخارجية والأعداء، الذين يتربصون بالوطن في الداخل وفي الخارج، وتمثّل هذه الظاهرة انعكاسًا لما يسمّى بـ”عقدة الاضطهاد”، وتأخذ هذه الظاهرة الشاذة والمرضيّة شكل الوباء الجماعي، لتسيطر على عقلية الجماهير.
رهاب الاضطهاد الجماعي مثله مثل معظم الاضطرابات النفسية التي تصيب الفرد، يأتي من عوامل خارجية ضاغطة، مثل الكوارث المتلاحقة، والفشل على كافة نواحي إدارة الدولة، والاقتصاد المتردي، والأمن المنعدم وما إلى ذلك، ويتميز الأفراد المصابون برهاب الاضطهاد الجماعي بكونهم في غاية العند، ولا يتقبلون انتقاد النظام بتاتًا، وكل من يحاول أن يثنيه عن سوء ظنهم، يضعونه في القائمة السوداء ويضمونه إلى قائمة السيئين، والشعور بالاضطهاد يولد عدوانية داخلية، فهم ضد كل من يخالفهم الرأي، ويضمرون الكراهية أو عدم الارتياح أو عدم الحب لمعظم الناس.
ومن السهل أن يتحول الفرد المصاب برهاب الاضطهاد الجماعي، إلى شخص عدواني يؤذي إذا أتيحت له الفرصة لذلك، والحوار مع تلك الشخصية مضن ومتعب، لا يستند إلى المنطق في كل الأحوال، ولا يتقبل ظاهر الكلام، وإنما دائم البحث عن الدوافع الخفية والمعاني الدفينة، والنقاش معه يطول، وهو في الغالب محاور بارع يجهد مَن يحاوره، ويحمل المواقف والكلمات أشياء ومعاني بعيدة أو مبالغًا فيها، تتوه وأنت تحاوره وقد لا تفهم ماذا يقصد، وتندهش لتفسيراته وتحليلاته المشبعة بسوء الظن، وتوقع الغدر والخيانة وكل ما هو سيئ، ويبقى أبرز ما في الأمر أنّ الشخص المُصاب برهاب الاضطهاد الجماعي لا يتقبل الانتقاد مُطلقًا، ويكون متمسكًا بآرائه، ولا يغير رأيه وإن بُرهن له العكس، بل يعتبر أن مغالطته إهانة.
هذا الشخص إذا أكدت الأحداث توقعاته شعر بزهو شديد، أما إذا أكدت الأحداث خطأ توقعاته وتحليلاته، فإنه لا يتراجع عن سوء ظنه، وتتميز عقدة الاضطهاد الجماعي باعتقادات باطلة راسخة، يتشبث بها لفرد بالرغم من سخافتها، وقيام الأدلة الموضوعية على عدم صوابها، وتتسم قناعات الشخص بالمنطق، لكنه منطق لا يقوم على أساس صحيح، ويسيطر هذا النوع من الرهاب على مؤيدي الأنظمة الديكتاتورية والفاشلة، وهو رهاب مصطنع، يخلقه الإعلام المنحاز ويغذيه باستمرار لصنع البيئة المناسبة لاستمرار النظام.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست