يقف منتشيًا بالانتصار وسط الملايين، يحاول احتواء بنظره وعقله التطور الغريب الذي جرى على إمبراطوريته وشعبه. يبتسم صاحب أول ثورة في تاريخ مصر وفي التاريخ القديم كله، ووسط الآلاف من المنادين بالتغير يقف منصوبًا رافعًا هامته، يحاول أن يقول لنفسه ولهم أن الآن لم تذهب ثورته وأحلامه هباء. ثائرون التفوا بوشاحهِ القديم الحديث، ترى هل تعلّموا من معاناتي الغائبة الحاضرة. كثيرون هم على قدر الأعوام التي انتظرها، الآلاف يتراصون ملتحمين مكونين جسدًا واحدًا، يمكن أن ترى وجه إخناتون من الأعلى.
انتظرت مترقبًا الخروج من دائرة التاريخ القديمة المتجددة، ظللت أشاهد آلافًا وآلافًا من الأجيال يركضون بداخلها، أتفاعل مع النجاحات حينًا ويصيبني اليأس من صعوبة التغيير حينًا آخر، ظللت أتألم لتكرار الأخطاء والتضحيات التي تبذل دون جدوى. سأطوف بين الجميع محاولًا أن أخبرهم أنهم لم ينتصروا على حكامهم الطغاة الحاليين فقط، بل انتصروا على كهنة آمون والآلهة القديمة، والهكسوس، والفرس، واليونانيين، والرومان، والسلاطين والمماليك، والملوك، والرؤساء وغيرهم الكثير والكثير من الطغاة الذين عرفوهم والذين أغفلهم كتّاب التاريخ.
انتصارٌ أنهى عصرًا طويلًا اجتمعت في رحابه كل تلك العصور تحت مبدأ اضطهاد ظالم واحد، اختلفت الأسماء وأصولها وبلادها، ولم تتغير ضمائرهم الطامعة. الآن سأهتف بين أبنائي مثلي مثل الجميع، وسنأذن برحيل ليل طويل استغرق آلاف الأعوام وشروق شمس آتون الإله الواحد، وحينها سيعلم الجميع بأن آتون لم يكن سوى ثورة على التقاليد والظلم والطغيان وأن آتون ما هو إلا ثورة.
راح يطوف بين الجميع ناصحًا ومستشهدًا بنفسه ونهايته الأليمة، يذكرهم بالتمسك والوحدة دومًا أمام سيل عارم قادم من حماة الفساد والظلم، والمنتفعين منه كقتال كهنة آمون والأشوريين والحيثيين ضده. سأحاول تجنيبهم الانتكاسات، والنزاعات الهدامة غير المجدية التي تبعدهم عن أهدافهم الواحدة. سأقص عليهم لماذا اخترت إلهًا واحدًا يتمثل في قرص الشمس، وكيف أردت توحيد الجميع تحت أفكاره وأشعته.
من أجل النجاح وجب الكفاح هكذا سأشد من همتهم، فعندما اتخذت قرارًا بمحو كل مظاهر الظلم والقهر والفساد المتمثلة في كهنة آمون والآلهة القديمة، أخطأت عندما وقفت واهنًا ولم أحمِ ثورتي، فتهاوت أمام عينيّ.
كنت صاحب أول محاولة وكنت أيضًا صاحب أول فشل، فعلى قدر المسؤلية التي تحملتها منيت بالعواقب، كنت أرى أن لا بديل عن السلمية والحب في كل شيء حتى وصفني الناس بالجنون والضعف، ولكن إيماني كان أقوى من كل الشكوك، كنت أعلم بأن الآلاف من الأميال تبدأ بخطوة وقد بدأتها، وكنت على يقين بأن النصر والتغيير سيأتون لا محال وإن طال الوقت.
قالوا عني فرعون الاضطهاد وبأني نسواني المظهر ولا أليق بأن أكون قائدًا، وأني لست سوى مهووس وأفكاري ما هدفت إلا للتفرقة والبلبلة، ولو كان الانتصار حليفي لما قالوا عني هذا، بل كانوا سيرفعونني إلى أعلى المرتبات في التاريخ الإنساني، ولكن لا يهم فكل ما طمحت إليه هو التغيير والثورة، فلا تهتموا بكتّاب التاريخ أو بما يقولونه وتحلّوا بالإيمان، وتعلّموا الثورة من الطبيعة فعلى الرغم من شدة الصخور تخرج من بينها أزهار وتتفجر منها أنهار.
وها أنا أدون الحقيقة بنفسي دون زيف أو اقتطاع منها، سأنقشها بيدي على المعابد، وسأكتبها على أوراق البردي، وسأبعث بها إلى كل الأمصار ولكل من اتهمني وقال بأن سلميتي كانت سببًا في نهاية ثورتي وأحلامي، ولكن ها هي تتجدد وتولد من جديد وستظل هكذا حتى تنتهي الحياة.
في الحقيقة، للمرء طاقة على كل ذلك، متى كان قد ولد من أجل وجود كمين تحت الأرض ومحاربًا؛ فشأن المرء أن يعود دومًا من جديد إلى وضوح النور، شأن المرء أن يعيش دومًا من جديد ساعته الذهبية وأن ينتصر، ومن ثم ينتصب هناك، كما ولد، غير قابل للانكسار، متوترًا، متأهبًا للجديد، للأمر الأعسر والأبعد، كما قوس لا تزيدها الشدة إلا انتصابًا. فريدريتش نيتشه (في جنيالوجيا الأخلاق).
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست