أبو حامد الغزالي العالم الصوفي المعروف الذي عاش في عصر ملاحم وفتن، على رأسها الحملات الصليبية واحتلال الصليبيين لبيت المقدس وإقامة مستوطنات (إمارات) صليبية في الرها، بيت المقدس، أنطاكية وطرابلس. وهو الذي كتب ما كتب في الفلسفة والفقه والزهد والرقائق، وعرف بكثرة تأليفه واعتزاله الناس في داره. لم يكتب كلمة واحدة فيما يهم الأمة وسط تلك اللجج المظلمة.
بخلاف أسماء شهيرة من العلماء أمثال العز بن عبد السلام، الذي لا تخفى قصته مع سلطان وأمراء المماليك على أدنى قارئ للتاريخ. وابن تيمية الذي جاهد الصليبيين ومن شايعهم بالسنان واللسان معًا. وغيرهما من العلماء والدعاة الذين لم يألوا جهدًا في حث الأمة على الاتحاد والانتفاض لدحر الصليبيين عن ديار المسلمين والمسجد الأقصى.
أقتبس اقتباسًا مهمًا عن الغزالي من الدكتور زكي المبارك في كتابه «الأخلاق عند الغزالي» (ص 25): «أتدري لماذا ذكرتُ لك هذه الكلمةَ عن الحروبِ الصليبيةِ؟ لتعرف أنه بينما بطرسُ الناسكُ يقضي ليله ونهاره في إعدادِ الخطبِ وتحبيرِ الرسائلِ لحث أهلِ أوروبا على امتلاكِ أقطارِ المسلمين، كان الغزاليُّ (حجةُ الإسلامِ) غارقًا في خلوتهِ، منكبًّا على أورادهِ، لا يعرفُ ما يجبُ عليه من الدعوةِ والجهادِ».
وأهمية هذا الاقتباس من دكتور زكي مبارك أنه قارن بين بطرس الناسك والغزالي. وبطرس هو الراهب الصليبي الذي كان أول من استجاب لدعوة البابا أوربانوس في فرنسا لشن الحروب الصليبية، فجمع هذا الراهب المزارعين والفقراء والأقنان وعبيد أوروبا الرازحين في إقطاعيات النبلاء، وخرج بهم عبر طرق الدولة البيزنطية ودولة السلاجقة في الحملة الصليبية الأولى (قبل خروج الفرسان الأوروبيين). وهذا موقف انتحاري بلا شك، قيادة جموع غير محاربة للانتقام من الخليفة الفاطمي الذي أحرق كنيسة القيامة في القدس! بينما الغزالي موقفه كان صفرًا كبيرًا بجانب موقف بطرس الناسك.
الاقتباس الثاني من د. عمر فروخ في كتابه «التصوف في الإسلام» (ص109): «ألا يعجب القارئ إذا علم أن حجةَ الإسلامِ أبا حامدٍ الغزالي شهد القدس تسقطُ في أيدي الفرنجةِ الصليبيين، وعاش اثنتي عشرة سنة بعد ذلك ولم يشر إلى هذا الحادثِ العظيمِ، ولو أنه أهاب بسكانِ العراقِ وفارس وبلادِ التركِ لنصرةِ إخوانهم في الشامِ لنفر مئاتُ الألوفِ منهم للجهادِ في سبيلِ اللهِ… وما غفلةُ الغزالي عن ذلك إلا لأنه كان في ذلك الحين قد انقلب صوفيًّا، واقتنع على الأقل بأن الصوفيةَ سبيلٌ من سبلِ الحياةِ بل هي أسدى تلك السبلِ وأسعدها».
وأهمية كلام د. عمر فروخ أنه أشار إلى مسألتين مهمتين وهما: مقدرة الغزالي على حشد المجاهدين فلم يكن عاجزًا عن ذلك، ومدى الاستجابة المتوقعة من الناس لو توجه لهم وحثهم على الجهاد.
وقد قرأت ترقيعًا لأحد الكتاب يبرر للغزالي موقفه بأنه كان مهتمًا بموضوعاته التي شغل بها لإعداد أجيال جهادية في رحم الغيب وذلك لفساد العصر الذي عاش فيه الغزالي! وهذا ترقيع فاشل وكذب محض. فمنذ وصول الصليبيين إلى المشرق الإسلامي فقد بدأت حركة الجهاد فورًا ولم تتوقف بل كانت تشتد وتخف، ولكن العلامات الفارقة المضيئة كانت أثناء الوحدة ضد الصليبيين، ومن يرجع لقصة تحرير الرها وهي أول إمارة صليبية يدرك أن الجهاد بدأ مبكرًا، وكان موجعًا للصليبيين جدًّا. ومن يرجع لتاريخ دولة الأتابكة الزنكية والأيوبية من بعدها ثم دولة المماليك يجد أن الجهاد لم يتوقف ساعة واحدة في المشرق الإسلامي. فتبرير الكاتب لحجة الإسلام ساقط وما كتبه الغزالي برمته لا ذكر فيه للجهاد ولا للصليبيين وحملاتهم واحتلالهم لبلاد المسلمين، كأنه عاش في عصر آخر، فكيف يعد جيلًا مجاهدًا إذن؟!
والأغرب أن يجد الغزالي في أفكار الفلاسفة ما يحشد عزمه ويستنهض همته للرد عليهم بكتابه (تهافت الفلاسفة) الذي يقول في مقدمته: «ابتدأت لتحرير هذا الكتاب، ردًّا على الفلاسفة القدماء، مبينًا تهافت عقيدتهم، وتناقض كلمتهم، فيما يتعلق بالإلهيات، وكاشفًا عن غوائل مذهبهم، وعوراته التي هي على التحقيق مضاحك العقلاء، وعبرة عند الأذكياء. أعني: ما اختصوا به عن الجماهير والدهماء، من فنون العقائد والآراء». وعند التحقيق أيضًا فموقف الغزالي يضحك العقلاء!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست