من اللافت خلال العقدين الأخيرين اتجاه مجموعة من الشعراء إلى الكتابة في الرواية، وبين الفينة والأخرى يثار موضوع خيانة الكُتّاب للجنس الذي كتبوا فيه أول الأمر. لا أعلم من أين جاء من هم ضد هذا الاتجاه بأدواتهم النقدية، ولا من أي مناهج قرأوا بأن على الكاتب أن يكتب في جنس واحد دون سواه، حتى إن هناك من قال بعدم استحقاق بعض الشعراء لجوائز توجوا بها، لا لشيء إلا لأنهم «خانوا القصيدة». ربما غاب عن هؤلاء أن العديد من الأدباء الكبار كتبوا الشعر بادئ الأمر، ثم تحولوا إلى الكتابة في جنس آخر، فبالعودة إلى الأدب العالمي نجد أن كونديرا، مثلًا، بدأ حياته شاعرًا، ومثله كان بول أوستر، بل إن شكسبير أيضًا كتب الشعر إلى جانب المسرحيات التي اشتهر بها.. وغيرهم الكثير.

عربيًا أيضًا هناك الكثير من الشعراء الكبار الذين كتبوا في الرواية منهم سليم بركات، وحسن نجمي، وعباس بيضون.. والقائمة طويلة وتتوسع.

لكن ما يجب أن نحتكم إليه أثناء قراءة أي كتاب هو المنجز نفسه، أما أن يكتب الكاتب في أي جنس يراه مناسبًا فذلك حق لا يمكن مصادرته.

يقول جون إيف تادييه في كتابه «القصة الشعرية» إن كل رواية هي بقدرٍ ما قصيدة، وبالعودة إلى «جزيرة البكاء الطويل» التي قادنا إليها شاعر قدم إلى الرواية، واختار أن يكسر سلسلة إصداراته الشعرية التي بدأت منذ سنة 2004 بديوان «أخيرًا وصل الشتاء» واستمرت إلى سنة 2021 التي أصدر فيها ديوانه الأخير «عدّاء المسافات القصيرة» بإصدار روائي جديد صدر عن دار المتوسط بميلانو، وفيه يتعقب حياة مصطفى الأزموري أو إستيفانيكو منذ أن باعه والده للبرتغاليين بأزمور ليكون عبدًا لهم، إلى أن أصبح رمزًا تاريخيًا كمكتشف لمدن الذهب وما فيها من شعوب وحضارات وغرائب، أقول بالعودة إليها، فإنها بقدر ما تجسد مقولة تادييه لعدة اعتبارات سآتي على ذكرها من خلال الملاحظات التالية:

– يعيد عبد الرحيم الخصار إحياء مصطفى الأزموري أو إستيفانيكو الذي تحول من عبدٍ إلى رمز تاريخي، هذه الشخصية الاستثنائية التي كانت موضوعًا لأعمال روائية أخرى، نجح الكاتب في تعقب حياتها بما فيها من تقلبات، وتنقلات، وأهوال، وقدّم رواية ساحرة تنم عن وعي الشاعر بما يجب أن يتوفر في الكاتب ليكتب الرواية.

– تغطي الرواية فترة زمنية تمتد منذ احتلال البرتغاليين لأزمور وما رافق ذلك من عنف، وقهر، واستبداد، ونهب، دفَع الأهالي إلى بيع أطفالهم مقابل خيشة من الشعير، إلى غاية وصول سفن الأوروبيين إلى أمريكا وما شهدته مدنها وجزرها من ظلم إنساني مورس على سكانها الأصليين، مرورًا بما عاشه الموريسكيون من اضطهاد وتعذيب وتهجير.

– تنقل مصطفى الأزموري بعد بيعه من طرف والده بأزمور بحفنة مال، بين إشبيلية حيث جرى بيعه مجددًا في سوق النخاسة بحفنتين، ثم إلى بيخار حيث يوجد بيت السيد الذي اشتراه فأصبح صديقًا يرافقه في خرجاته البعيدة والقريبة، وصولًا إلى جزر أمريكا ومدنها حيث خاض مغامراته المؤلمة، وكان شاهدًا على الكثير من الأهوال التي وصلت حد أكل الأصدقاء لأصدقائهم.

– يظهر جليًا من خلال هذه الرواية أن الخصار بذل جهدًا كبيرًا في البحث، وأنه قدِم من الشعر بوعي كبير بما تحتاجه الكتابة الروائية من اطلاع وبحث وضبط للأحداث التاريخية، ومن اشتغال على بناء الشخصيات. وكثيرة هي الأمثلة التي يمكن العودة إليها في النص، لكنني سأكتفي منها بذكر ما يلي:

1/ وصفه الدقيق للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بمدينة أزمور بعد دخول البرتغاليين إليها.

2/ وقوفه عند ما كان سائدًا في إسبانيا، وما تعرض له اليهود والمسلمون من قتل وتعذيب وتهجير قسري: فالملك فرناندو مثلًا كان يقيم حفلات شواء يحضرها الرهبان وحاشيته: حفلات شواء البشر ممن رفضوا تغيير دياناتهم! وهذه الأوضاع هي التي حوّلت مصطفى الأزموري إلى استيبان دي دورانتيس.

3/ وصفه لتضاريس مدن وجزر أمريكا ولعادات وتقاليد قبائلها:

 «لم يكن البكاء في تلك الجزيرة يشبه البكاء في أي مكان آخر. حتى في الحب، وفي لحظات يفترض أنها لحظات فرح، يحضر العويل والنشيج. حين يلتقي الشاب مع حبيبته في أحد أطراف الجزيرة يجثوان على أقدامهما قبالة بعضهما، ويشرعان في البكاء لنصف ساعة تقريبًا، يبكيان بعيون مغمضة، وبشفاه مطبقة على بعضها».

– استعمل الكاتب تقنية تعدد الأصوات وبرع في ذلك، فتارة نسمع القصة من الأزموري نفسه، وتارة أخرى ينتقل السرد إلى مرافقيه قبل أن يعود إليه مجددًا بما يخدم مسار الرواية ويجعل حبكتها متحكمًا فيها.

– تعجبني الروايات التي تتوقف عن سرد الأحداث لتفسح المجال للتأمل في جوانب متعددة من الوجود الإنساني؛ وهو الأمر الذي برع فيه الكاتب على لسان شخصياته:

الموت: «حين تكون الوحيد الذي مات في زمن ما تكون لموتك هالة، أما حين تموت مع الجميع، فلا يكون لموتك أي معنى».

الحب: «إن أكبر معروف يمكن أن تقدمه للحب هو ألا تعترض سبيله، أن تدعه يمضي في طريقه حيث يشاء، حتى وإن كان سيصطدم بصخرة أو يجرفه شلال».

الحياة والموت: «الحياة أعرفه عنها الكثير، أما الموت، فقد رأيت وجهه مرارًا، وبدا لي مخلوقًا غير غريب عني، بل إنه أحيانًا يشبهني، كما لو أنه فرد من العائلة».

– يملك عبد الرحيم قدرة كبيرة على سرد الكثير من التفاصيل بأقل قدر ممكن من الجمل، توازيها قدرته على التنقل بين الفصول بسلاسة ساعدته عليها لغته الجميلة والتقنية التي استعملها في السرد.

– إذا كان جون إيف تادييه يعتبر بأن كل رواية هي بقدرٍ ما قصيدة، فإن الخصار جسد هذه المقولة في جزيرة البكاء الطويل، يظهر ذلك من خلال اللغة الشاعرية التي كُتبت بها الرواية، ومن خلال التكثيف الذي ميز جملها… حتى إنه من السهل على القارئ الذي لا يعرف عبد الرحيم الخصار أن يعرف بأن شاعرًا مميزًا وراء سطور هذه الرواية.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد