لم يتبق من الثقة شيء في نفوس مجتمعٍ قد استنزفه قادته بمختلف أشكال وألوان المصطلحات الوطنية الرنانة على مدار أعوامٍ طويلة ضاع فيها مستقبل أجيال، وخسرنا فيها من البشر والشجر والحجر ما تُبنى عليه أقوام، ونزفنا لها وعليها من الدموع والدماء ما اذا استثمرناهُ بِحق، ووجهناهُ بصدق، وأكرمناهُ برفق، لاعتلينا من فوق مركبٍ على أمواجه ما هو أعلى من قمم جبال أعظم دول العالم، ولكن خسرنا عمرًا ووطنًا وقضية ولم نجن إلا خيبات الآمال، وما عَلّونا قمة أيُ جبلٍ، وإنما علَت من فوقِ رؤوسنا الرمال.
سنواتٍ طِوال، علقنا فيها آمالُنا تارة على جُدران مكة المُكرمة، وتارة أخرى على ضفاف نهر النيل، وتجرعنا فيها ما قذفه القريب، والبعيد، والصديق، والعدو، من السموم والغدر والخيانة، حتى أصبحنا أرخص عملة يتاجر بها لتحقيق المكاسب السياسية على مستوى العالم دون حتى الاستئذان منا قبل عرض كرامتنا كسلعة في أسواقهم السوداء.
فقدنا الأمل بعد كل ذلك أو كدنا أن نفعل وما زلنا، فلا مُبشرًا كان بتغير الواقع، ولا حاضنًا حقيقيًا رأينا لمستقبلٍ واضح، ولا غير المؤشرات المرعبة تتحدث عن ضياع قادم، هي فقط من تتحدث (المؤشرات المرعبة)، أما واقع قادتنا فإنه لا يُبشر أبدًا بالخير، ففي ظل ما يعانيه مجتمعنا الفلسطيني من شتى أنواع القهر والحاجة والفقر الجائر لكافة مقومات الحياة من أمن وغذاء وكهرباء وغيره، نجدهم للأسف يغمضون أعينهم عن كل تلك المشكلات ويجمعون قواهم نحو تكريس الانقسام الفلسطيني، بالرغم من علمهم بحجم الهجمة على قضيتنا وما يخطط لها من تصفية!
أما بعد، فثمة أمل قادم من بعيد.
تعودنا في مجتمعنا الفلسطيني على الردح السياسي، ولم نتعود منذُ زمنٍ بعيد على النقد البناء(كدنا ننسى)، عقودٍ ذهبت ولا غير الانقسام والصراع الحزبي يسود حتى أننا تناسينا مذاق النسيج الاجتماعي الحقيقي الذي كان يسود في عهد طفولتنا، والتي لم تعلم أبدًا مذاقه الأجيال الحديثة في مجتمعنا، نسينا أيضًا اشياء جميلة كثيرة كانت طبيعية قديمًا، وأصبحت غريبة الحدوث في حاضرنا كالتراث والأصالة الفلسطينية والكثير الكثير من العادات والتقاليد الفلسطينية الغائبة عن أرضنا الحاضرة في نفوسنا، ونسينا أيضًا المواقف الحقيقية للرجال من كلمة الحق ومناصرته ومحاربة الباطل والظلم ودحره ونصرة شعبنا بالقلم والبندقية والوقوف إلى جانبه من أجل الشعب لا الحزب، ومضينا في النسيان حتى كدنا أن تتبدل لدينا الحقائق، لقد كادت تذهب من ذاكرتنا ما أقيمت عليه وبسببه انتفاضاتنا الأولى والثانية، وما تأسست عليه منظمتنا منظمة التحرير الفلسطينية من اتفاقيات دولية وتشريعات وحقوق، كدنا ننسى أننا أصحاب أرض وحق، كدنا ننسى ثوابت كثيرة أرهقت من سبقونا في العمل النضالي الحقيقي، كدنا ننسى لو لم يذكرنا من خاض العمل السياسي والنضالي قديمًا وحديثًا، ومارسه أولًا برفقة أعظم قادة فلسطين، وعلى رأسهم الشهيد العظيم ياسر عرفات «أبو عمار» مستمرًا إلى يومنا هذا ليخرج بصوتٍ مخضرم لنصرة شعبه الذي يراه أمام عينه يغرق في ظلم وظلام من أصواتهم حبست داخل أفواهٍ قيدتها تشريعات واتفاقياتٍ وترهلات دولية وإقليمية أكل عليها الدهر وشرب، اتفاقات، ومعاهدات، وتشريعات يتم التمسك بها من طرف واحد فقط وهو الطرف الفلسطيني، في حين أن الطرف الثاني قد تخلى عنها ونقضها وحلَّ ميثاقها في اقل من عامين من عقدها والاتفاق عليها بعد مقتل (رابين) عام 1995.
الدكتور سلام فياض، لا شك أنه فاجأنا جميعًا بإثارة موضوعات ونقاط حاول العالم بأسره تشتيتها في أذهان الجميع، بل إحلال مرتكزات حياتية واجتماعية بحته بدلًا عنها على مدار السنوات الكثيرة الماضية، فكان لمقال د. سلام فياض دور هام في استفاقة الكثير من العقول التي حاولت العديد من الأيادي الملوثة إخمادها فكرًا ونقدًا وتساؤلًا، وحرف مسارها عن تقصي الحقائق وإظهارها إلى غض النظر عنها وتجاهلها في سبيل الوصول إلى شبه حياة.
فحرك الدكتور فياض تلك المياه الراكدة منذ سنين مُشعلًا بذلك فتيل القنبلة التي كان أغلب قادة سياسيي الصفوف الوطنية أجبن من إشعاله، فكيف لهم ذلك، وهم تابعون فكرًا وعقيدة لأجندات وأهداف خطها من هم دون الفلسطينيين، ليس المقال فقط من لعب دورًا في ذلك، ولا حتى العمق السياسي الخطير الذي تناوله هذا المقال بالإضافة لأهميته، وإنما ترجمة هذا المقال (الذي حمل في طياته جوانب سياسية عديدة تناولت واقع القضية الفلسطينية وحاضنها الشرعي الوحيد منظمة التحرير، وما يجب أن تكون عليه هذه المنظمة مستقبلًا) إلى جسمٍ حقيقي بات له حضور قوي على أرض الواقع من خلال حملة شعبية تَبنَّى روادها ما حمله المقال من أهداف سامية وعظيمة.
وبدأت «الحملة الشعبية لإنهاء الانقسام واستعادة الأمل»، والتي تبنى حاملو أفكارها مبدأً عظيمًا يتمثل في كلمة (قادرين) استنشاق أول نفس للحياة على أرض الواقع بعدما أخذ على عاتقه الدكتور سلام فياض دعم هذه الحملة، وتبني أفكارها وأهدافها، ومتابعة نشاطاتها، ومساراتها سعيًا منه لإحداث تغيير إيجابي ملموس على أرض الواقع، من خلال العمل الجاد والحقيقي تجاه تذويب كل العقبات والمعيقات التي تحول دون حدوث ونجاح المصالحة الوطنية أيًا كان حجمها ومصدرها، والسعي إلى تغليب المصالح الوطنية العُليا على المصالح الحزبية أو الشخصية؛ مما يُخلص بالطبع مجتمعنا الفلسطيني من كافة الظروف الصعبة والقاسية التي يعيشها جميع شرائحه ومستوياته، لاسيما مجتمعنا في غزة والتي نال نصيب الأسد من الهموم والآلام والظلم والظلام نتيجة استمرار هذا الصراع الحزبي والانقسام الفلسطيني والشرخ الوطني الخطير والقائم «للأسف» إلى يومنا هذا، بالرغم مما تواجهه قضيتنا من هجوم شرس واغتصاب غاشم وتعديات خطيرة غير مسبوقة يعلمها الجميع ويعي حجم ما قد تسببه من دمار وضياع للبشر والحجر وللأرض.
جميعنا يعي تمامًا، بل يؤمن بأن مستوى ما تملكه القيادة الفلسطينية من قوة وحنكة سياسية غير كافٍ أو شافٍ، وهذا ما يعكسه موقف القيادة إزاء الهجمة الخطرة التي يوجهها العالم نحو قضيتنا الفلسطينية، والتي شكل الانقسام الفلسطيني فرصة قوية لطرحها، وأرضًا خصبة لتنفيذه، لذلك لم ولن يكون لنا خلاص، ولا نجاة من كل ما يتم تخطيطه لنا، ولقضيتنا إلا من خلال قائد حقيقي يجمع ما بين كل الأطراف الفلسطينية، ويوحدها تحت بيتٍ فلسطينيٍ واحد مُنهيًا بذلك كل المخالفات والتجاذبات السياسية المُغذية للانقسام والشرخ الفلسطيني.
ولعل ما عشناه قبل انتخابات 2006 من واقع اقتصادي واجتماعي وتعليمي وسياسي جيد ومُرضي مقارنة بما نعيشه اليوم على صعيد شقي الوطن (الضفة وغزة)، وما كان للدكتور سلام فياض من دور هام في ذلك، وهذا ما يعلمه ويعقله من خاضوا المعارك السياسية آن ذاك وحتى يومنا هذا، لاسيما في فترة تواجده في الحكومة الفلسطينية كوزيرًا للمالية وما تلاها من تولية رئاسة الوزراء، يجعلنا نؤمن تمامًا بما يملك من مهرات وقدرات سياسية واقتصادية، بالاضافة إلى ما يحظى به من علاقات دولية (أوروبية أو إقليمية) تجعل منه قائدًا مخضرمًا قادرًا على توفير فرصة حقيقية يمكن من خلالها تغيير الواقع الفلسطيني، ونقله من المستوى الخطير الذي يقبع فيه إلى مستويات الأمن، والنجاح، والتطوير، والتقدم، وبالطبع هذا لن يتحقق إلا من خلال غطاء فلسطيني واحد يجتمع تحت راية واحدة، وهذا بالضبط ما هدف إليه الدكتور سلام فياض من خلال كل من مقالة «الرائد أولًا»، ومن ثم من خلال الحملة التي يقودها.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست