تمنى كثير عزة، (اسمه الحقيقي كثير بن عبد الرحمن بن الأسود، ولكنه اشتهر بالاسم الأول لتعلقه ومودته الكبيرة بعزة الضمرية) – تمنى كثير أن يكون هو وعزة بعيرين أجربين! وهي أمانٍ مستغربة ومنفرة، لا يمكن تصورها أن تصدر من أشخاص طبيعيين فيما بينهم، ناهيك عن أن تكون بين محبين مثل كثير وعزة، ولكن عندما يبلغ اليأس مداه وتستحكم حلقات الضيق والشدة وتنعدم الحلول المعقولة والمقبولة فمن الممكن أن نسمع مثل هذه، والتي يطلق فيها الشاعر لخياله العنان فيصنع واقعًا في عالم الخيال – الذي يهرب إليه – يجد فيه كل ما كان منه محرومًا ويتحقق فيه كل ما كان مستحيلًا، ورغم أنها أمنيات تتسم بالغرابة والقبح، إلا أن الشاعر لا يجد فيها شيئًا من ذلك بل يجد فيها قسمًا كبيرًا من الاطمئنان النفسي الذي افتقده في الواقع وهي من ثم تعالج ولو مؤقتًا الأزمة النفسية التي يمر بها وهي في حالة شاعرنا كثير، هي حرمانه من محبوبته، ومن الخطأ – فيما أرى – أن نعاقبه فيما افترضه هو في عالم الخيال بعد أن تمت معاقبته في عالم الواقع.
وقبل أن نذكر الأبيات التي يتمنى فيها كثير ذلك التمني المذموم، ينبغي أن نشير إلى أنه وجد ظلمًا من مجتمعه وهي قبيلة خزاعة، وجد ظلمًا بدءًا من اسمه إذ غلب عليه اسم التصغير، وربما يكون التحقير أيضًا، خاصة وأنه كان قصيرًا ودميمًا، وهو نفسه يشير إلى اسمه بمعنى الكثرة في الأبيات التي يقول فيها:
ومع الخطأ في تحريف اسمه بصيغة التصغير والذي لازمه إلى مماته، ورغم أنه لم يهتم به كثيرًا لاعتزازه وثقته الكبيرة بنفسه، فإنه ما أن أحب عزة الضمرية أو أم عمرو كما يكنيها أبوها، فإن أسرتها بادرت بتطبيق أعراف القبيلة المتمثلة في تزويج عزة لأول خاطب بعد أن ملأ كثير الدنيا بأشعاره التي يناجي فيها عزة، ومن ثم تجب الهجرة عليهم ومفارقة الديار طبقًا لتلك التقاليد، وهذا ما حدث بالفعل وفارقوا ديارهم إلى مصر، وهي من جملة الأسباب التي عظمت من شقائه ودفعته إلى أن ينفس عن شوقه الحبيس لعزة التي لم يقدر أن تكون زوجه وملكه بتلك الأبيات، والتي على طرافتها وصدقها توضح حجم المأساة التي وقع فيها والتي كان هو وعزة أول ضحاياها والمكتوين بها، وهي الأبيات التي يقول فيها:
لعزة إذ حبل المودة دائم *** وإذ أنت متبول بعزة معجب
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست