جلس أسامة الأزهري والحبيب الجفري أمام إسلام بحيري يتناظرون بمنتهى الحماس، وهم يعصرون أذهانهم ليتذكروا كل ما حفظوه طوال حياتهم، فهل يا ترى كان هذا الحماس هو حماس من يريد الحقيقة ويعشق العلم أم هو حماس من يريد الانتصار للأيديولوجيا التي توفر له كل هذا الكم من الامتيازات؟
ليس قدحًا في الأيديولوجيا؛ فالأيديولوجيا هي ذلك النسق الذي يهتم بالتوفيق، ويهتم بما هو عملي وبراجماتي؛ حيث يعمل هذا النسق على تكييف الإنسان مع عالم متخيل غير ذلك الحقيقي؛ بعكس العلم الذي يهتم بالمعرفة قبل الحياة، فقد يُرى في الأيديولوجيا ممكن للحياة –بالأخص لمن يجنون فوائد مباشرة منها-، فالعالم ليس بهذا الجمال كي نسعى لرؤيته على حقيقته، أو كما يقول سيوران: “العلم منفى والجهل وطن”، لذلك فنحن نعرف مبررًا قويًّا لهؤلاء الذين يحتمون بالأيديولوجيا وينظرون من نافذتها على العالم من حولهم ومن خلفهم، بالأخص حين ترتبط تلك الأيديولوجيا بمصالح ذاتية ملموسة متعلقة بالمكانة الاجتماعية ومتعلقة بالسلطة.
ليس الغرض الأصلي من تلك المقدمة هو مناقشة ما إذا كانت مناظرة الشيخين المبتسمين دائمًا بلا سبب “أسامة الأزهري” و”الجفري” مع الإعلامي المتعصب دائمًا بلا سبب “إسلام بحيري” هي تعبير عن هم معرفي حقيقي أو عن أيديولوجيا تتجسد خلفها المصالح، وإنما هذه المقدمة تجعلنا نطور السؤال لكي نطرحه على الواقع بطريقة يُظهر بها أكثر مما يظهره لنا مباشرة، فالسؤال ينبغي أن يكون “لماذا يجتمع ثلاثة رجال لمدة خمس ساعات كي يتناقشوا بكل هذا الاحتدام وكأنهم في معركة تقرير مصير؛ رغم أن الثلاثة يمتلكون في الأخير نفس النتائج النهائية الخاصة بالتعامل مع الحياة ومع العلم ومع الأيديولوجيا ويمتلكون نفس الخيارات السياسية، ونفس العدو ونفس التأييد لنفس السلطة السياسية القائمة، ويختارون نفس الصمت اتجاه ما هو مهم ونفس الضجيج حول ما هو غير متصل بحياة الناس”؟
كانت آخر تلك المناظرات التي احتشد حولها الناس وأثيرت حولها كل هذه الضجة، هي المناظرة التي سبقت الانتخابات الرئاسية عام 2013، لكن يبدو أنه لن تحدث مثل تلك المناظرات المتعلقة بالواقع المعاش مرة أخرى في القريب العاجل؛ فقد انتهى عصر مناظرات الانتخابات الرئاسية هذا في بلادنا إلى غير رجعة قريبة، بالتالي فلم تكن المناظرة التي تجذب هذا الكم الهائل من الجمهور هذه المرة متعلقة بأوضاع آلاف المعتقلين السياسيين أو متعلقة بالفلسفة الاقتصادية الحالية للدولة، وهل حقًّا هي فلسفة تصب في صالح الفقراء أم أنها ستدهسهم، فعوضًا عن أن يكون مسرح النقاش هو الواقع البائس المعاش، اختار الجميع هذه المرة أن يكون المسرح في الماضي السحيق، وأن نتابع بشغف من هو الأكثر قدرة على هزم مناظره بين دفات كتب التراث.
ما نروم ملاحظته هنا ليس تشبث المتصدرين للخطاب الديني بالأيديولوجيا، لكن ما نود ملاحظته هو كيف تنطوي الأيديولوجيا -التي تُقدَم باعتبارها ممكنًا للحياة ووطنًا بعكس العلم الذي يعد منفى- على معتقلات مغلقة تُشيد خلف ابتسامات الاطمئنان واليقين الكاذبة، فحين ترى مستشار رئيس الجمهورية للشئون الدينية “أسامة الأزهري” بابتسامته المهذبة وصوته الخفيض الهادئ يحدثك عن الأزهر باعتباره ركيزة العلوم والمعارف المحتكرة لحق التفكير في أغلى شيء في حياة الإنسان العادي وهو علاقته مع الله، عليك أن تمد الخط على استقامته لترى كيف يمكن للمقابر أن تُشيَد على لبنات الابتسامة الراقية.
كثير من الناس قد يندهشون إذا سمعوا بأن الفلاسفة طول النصف الثاني من القرن العشرين حمّلوا هيجل وجدله، وروسو وفكرته عن الإرادة العامة ذنب الملايين الذين لقوا حتفهم في الحرب العالمية وفي معسكرات التعذيب بمعتقلات التوتاليتاريات التي اتبعت نمط رأسمالية الدولة، سيسخر الناس إذا سمعوا بهذا؛ لأن الناس يسخرون دومًا من المثقفين لأنهم يمدون خط الفكرة إلى أبعد مداها.
في المناظرة قال الأزهري بصوت خفيض مهذب وبابتسامة راقية إن الأزهر هو منهج علمي مرتكز على مجموعة دوائر من العلوم والمعارف وأن تلك الدوائر هي التي اعتُمدت في بلاد المسلمين جميعًا، بالتالي فمنهج الأزهر هو المنهج العلمي الوحيد المعتبر والذي تمت تجربته عبر القرون، وبالتالي أيضًا فلن يتنازل هذا المكان عن احتكاره للحق الوحيد في المرور من أجل التفكر في الدين، ومن ثم في معنى الحياة، فلا سبيل لاقتناص هذا الحق إلا عبر الخريطة المعرفية التي تصورها الأزهري باعتبارها “فوق تاريخية”، فهي الخريطة المعرفية الوحيدة ذات الصلة المباشرة بالرسول، وبالتالي هي الخريطة المعرفية الوحيدة التي تسنى لها الاتصال بالمطلق.
حين ترى مستشار رئيس الجمهورية وهو يتحدث عن تلك الفكرة المتهافتة والقمعية، تفهم ببساطة كيف ولَدت مثل تلك الفكرة هذا الكم من الرضا والسرور الأزهري عن حالات القمع والقتل ضد من شكك قادة المؤسسة الإسلامية الرسمية في أنهم سيسحبون بساط الحق المطلق في الاتصال مع التراث من الأزهر، وسيتسنى لنا اكتشاف كيف ينمو القمع والقتل على أرض الابتسامات التي تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، وكيف لشيوخ ذوي ميول صوفية تقشعر أبدانهم وتنهمر دموعهم حين يسمعون بيتًا من الشعر في حب آل البيت؛ أن يمتلكوا كل تلك القسوة تجاه شباب أقطارهم المنسيين خلف أسوار السجون، وسيتسنى لنا في الأخير أن نفهم لماذا شعر الشيخان بضرورة ملحة في مناظرة شخص يشاطرونه نفس النتائج تقريبًا، لكنه لا يحمل نفس خريطتهم المعرفية، ولا يرتكز على نفس دائرة علومهم ومعارفهم ومنهجهم الذي يعرفون من خلاله قبل كل شيء امتيازاتهم في الحياة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست