من رحم الثورة وُلدت السينما الجزائرية، ثورة كانت مُلهمة لأغلب الأفلام الجزائرية وأنجحها، كيف لا وأول عمل عربي وأفريقي ينال جائزة عالمية في أكبر محفل للسينما الدولية، «السعفة الذهبية» كانت من نصيب «وقائع سنين الجمر» للمخرج «محمد الأخضر حمينة»، المخرج الذي أنشأ رفقة بعض رفقائه في الثورة أول خلية إعلامية تابعة لجبهة التحرير الوطني، كانت تحت إشراف المخرج الفرنسي«رينيه فوتييهRené Vautier» صديق الثورة والملقب بشي جيفارا السينما، ذات المخرج أبدع في رائعة «الجزائر تحترق» سنة 1958 الذي يعتبر أول عمل وثائقي مصور حول حرب التحرير.
ولأن الجزائر ألهمت بثورتها كثيرًا من دول العالم ولأن الرعيل الأول من المخرجين والممثلين عاصروا هذا الجزء المهم جدًا من حياة الجزائر تتابعت الأعمال السينمائية التي تُوثق للثورة ولحرب التحرير فكان: «الليل يخاف من الشمس» لمصطفى بديع 1965، «ريح الأوراس» لأخضر حامينة 1966 وغيرهما كثير.
ثم تأتي فترة السبعينات والثمانينات الفترة التي شهدت أعمالًا جديدة من حيث المواضيع المُعالجة خارج إطار الثورة لتُحاكي حال مجتمع ما بعد الاستقلال، تنوعت بين الاجتماعية كرائعة مصطفى بديع «الحريق»1971 ، «يوميات عامل» لمحمد افتيسان 1972، «شعبية» 1974 للحاج عبد الرحمن، كما شهدت هذه الفترة الزاهية من حياة السينما الجزائرية أعمالًا كوميدية – اجتماعية أشهرها للمثل «أحمد عياد» المعروف «برويشد» في أعمال خالدة كـ «حسان طيرو»، «حسان النية» 1989 و«حسان طاكسي» 1982 ولا يمكننا أن نغفل عن الممثل المبدع «حاج عبد الرحمن» المعروف بالمفتش الطاهر رفقة معاونه المرحوم «يحيى بن مبروك» في أعمال راسخة في أذهان كل المشاهدين الجزائريين صغارًا وكبارًا.
غير أن العشرية الأخيرة من القرن الماضي كانت القطيعة مع هذا التتابع في السينما الجزائرية التي شهدت أعمالًا في أغلبها كاسدة، فالأفلام لم تعد تُحدث ضجة إعلامية ولا فكرية، بل لم تعد تُلفت النظر في وسط المشاهد الجزائري باستثناء بعض الأعمال التي تُعرض خارج الجزائر في مهرجانات دولية لا يُشاهدها المشاهد الجزائري إلا بعد مرور وقت ليس بالقصير، أفلام لمخرجين وممثلين مغتربين، وبوسائل وأستديوهات أجنبية، وحتى الأفكار والتصور لواقع المجتمع الجزائري بعيد نوعًا ما عن الحقيقة وإن اجتهدوا، فأغلب الأفلام نقلت واقع الجزائري في الغربة على غرار فيلم «الشاب» لرشيد بوشارب 1990، «مائة بالمائة أرابيكا» لمحمود زموري 1997.
هذه النبذة المختصرة جدًا جدًا من تاريخ السينما الجزائرية تجعلنا نتساءل لماذا هذا التراجع الرهيب في الصناعة السينمائية في الجزائر؟
لن أجاوب عن هذا السؤال، بل سأعطيكم رقمًا اعتبره مفزعًا، «450» هو عدد قاعات السينما ورثتها الجزائر غداة الاستقلال، تقول الإحصاءات «وحسب المخرج عمار العسكري الرئيس السابق لجمعية أضواء، فالعدد تجاوز 487 قاعة» أما الآن وبعد كل هذه النجاحات في السينما الجزائرية لا نكاد نحصي 15 قاعة نشطة «وأي نشاط» خذ نفسًا عميقًا وتنهد فالتدهور حقًا مُفزعًا.
قد تتساءل لماذا أوردت هذا الانخفاض في عدد قاعات السينما في معرض حديثي عن تاريخ السينما الجزائرية، فأجاوبك هل من الصدفة أن هذا التقهقر المخيف في عدد قاعات السينما يتبعه تراجع مماثل للإنتاج السينمائي في الجزائر؟!
لن أتكلم عن أسباب هذا التدهور في عدد قاعات السينما لكن سأحاول أن أوضح دور قاعات السينما في عالم الإنتاج السينمائي، هذا النقص الرهيب في قاعات السينما جعل المشاهد الجزائري بعيدًا عن الأعمال السينمائية الجادة، فتغير الذوق العام للمشاهد الجزائري وما زاد الطينة بلة انتشار الهوائيات المقعرة نهاية الثمانينيات والإنترنت حاليًا، جعلت الجزائري يعزف عن الإنتاج الوطني، الأمر الذي جعل العاملين في هذا المجال يُوجِهون اهتمامهم وأهدافهم في عرض أعمالهم إلى المهرجانات الدولية بغرض التعريف بالمخرج أو الممثل بعيدًا عن وجود المشاهد الجزائري، كما حدث في مهرجان «واقادوقوا» مارس 2005 ، حيث نال الممثل «علي كويرات» جائزة أحسن ممثل في فيلم المشكوك فيهم للمخرج كمال دهان مقتبسة من رواية للكاتب طاهر جاووت، ومن الجانب التقني جائزة أحسن صوت كانت لفيلم المنارة للمخرج بلقاسم حجاج، إلا أن هذه الأعمال القيمة وبسبب الفقر في قاعات السينما تبقى بعيدة عن المشاهد الجزائري، وإن نجحت في حصد الجوائز فهي فاشلة من حيث أنها معزولة عن الرأي الحقيقي للمشاهد المفروض هو الحكم والمقصود بهذا المنتوج الثقافي.
مهرجانات وتظاهرات ثقافية كثيرة وأموال فلكية صرفت وأرقام كبيرة لعدد من أفلام أنتجت مؤخرًا في الجزائر، لم نسمع عنها حتى لا أقول شاهدنا منها شيئًا إلا بعض الأفلام التاريخية، نعم مرة أخرى الثورة والتاريخ كأن السينما التاريخية والثورية التي صنعت المجد في وقت ما ستنفخ الروح في سينما الجزائر، بالله عليكم إلى متى تبقى هذه الحقبة هي من تُلهم الإنتاج السينمائي؟ لا يذهب بالكم بعيدًا إلى أنني أنتقص من تاريخ السينما الثورية، لكن من سيحكي عن جزائر الحاضر؟
سنوات التسعينات وبداية الألفية الثالثة لا تقل شأنًا وأحداثـًا عن الثورة المجيدة، ولا حتى عن السبعينيات والثمانينيات، سنوات التشييد والبناء كما أخبرنا، بل هذه الفترة المقصية أو المنسية بقصد وغير قصد من السينما تُعد نقطة مفصلية في حياة الجزائر، لن يجد جزائري الغد في مستقبلنا أعمالًا تحكي وتُوثق هذه المرحلة المهمة من تاريخ الجزائر، والأحداث الدائرة مؤخرًا في الجزائر تنبئ بنقلة جديدة في تاريخ الجزائر، إن لم يكتب الجيل الذي عاش هذه الفترة من سيكتب عنها ومن سيروي على الأقل جانبًا مما حدث؟ وإن حدث وإن وُجدت بعض الأعمال فمتى يكون المشاهد الجزائري من الجيل الذي عايش الأحداث طرفـًا في هذا الإنتاج في ظل غياب قاعات سينما؟
هل سيشهد تاريخ السينما الجزائرية فجوة في خطها الزمني؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست