رغم اجتهاده ورغم حرص والده على التعليم، إلا أنّ ابن عائلة الوردي التي اشتهر جدها الأكبر بصناعة ماء الورد سرعان ما وجد نفسه في مواجهة أول ضربات الحياة القاسية، فبسبب المرض الذي أصاب عينه اليمنى وخوف أمَه عليه من إجهاد عيونه في القراءة ترك ابن بغداد الصغير مدرسته وبدأ العمل عند أحد العطارين، ولكن حنينه للقراءة والمعرفة دفعه ليشغل نفسه بقراءة الكتب والمجلات أثناء العمل، فكان يترك الزبائن أحيانًا ويسهو في أغلب الأحيان مما تسبب بطرده من العمل. وبعد مرور عدة أعوام وبسبب افتتاح مدرسة مسائية كانت الفرصة متاحة للالتحاق بالصف السادس الابتدائي، ليتمكن بذلك من فتح دكان صغير أداره بنفسه في أوقات النهار، وفي ساعات المساء كانت البداية لحياة دراسية جديدة.
كانت حياة الوردي الدراسية مليئة بالتغيرات التي كانت سببًا واضحًا في تطور شخصيته وأفكاره الاجتماعية، ويبدو أنّ هذه التغيرات لم تكن فقط على صعيد الأفكار، فقد قام بتغيير زيه التقلدي أيضًا وأصبح أفندي وأكمل دراسته وأصبح معلمًا في الإعدادية المركزية في بغداد.
وبعد تفوق واضح على زملاء مقاعد الدراسة كان من الحكمة إرسال هذا الطالب المتميز لبعثة دراسية إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، وهناك حصل الوردي على شهادة البكالريوس، وعلى أثر تميزه على صعيد الدراسة الجامعية حصل على بعثة دراسية أخرى وكانت هذه المرة إلى جامعة تكساس الأمريكية، وهناك حصل على شهادة الماجستير. وبعد سنتين قدم رئيس جامعة تكساس شهادة الدكتوراه له، وقال له أثناء مراسم تسليم الشهادة (أيها الوردي ستكون الأول في مستقبل علم الاجتماع).
بدأ الوردي بكتابة المقالات والبحوث الهامة، ولم يكن يلتفت لمستقبله الشخصي، وتابع المسير مؤلفًا لمجموعة من الكتب التي أبهرت العالم العربي مشكلةً أوائل الصدمات الثقافية التي كانت بطابع اجتماعي تارة، وبطابع علماني تارة أخرى. صدمات ومفاجئات من قلم جريء لم يتلق المجتمع مثلها منذ زمن بعيد، فلقد كان ذلك من خلال أبحاث ونقد وتحليلات سليمة ومدروسة لبنية المجتمعات العربية، وكانت العراق نموذجًا لذلك.
كان أول هذه الكتب كتاب (خوارق اللاشعور) الذي أصدره الوردي بعد حوالي عام من حصوله على شهادة الدكتوراه حيث مثّلَ هذا الكتاب دراسة عبقرية ودقيقة في طبيعة النفس البشرية شملت على عدة مواضيع كان من أكثرها روعة دور العقل الباطن والإطار الفكري في بناء شخصية اجتماعية ناجحة.
ووصف على الوردي الحقيقة في كتابه خوارق اللاشعور فأبدعَ في الوصف حيث يقول: «إنّ الإنسان هو مقياس الحقيقة، وإنه هو الذي يخلقها برغبته وهواه ومصلحته ولذا فهي تتغير من شخص إلى شخص ومن حضارة إلى حضارة، فما يكون صحيحًا في يوم قد يكون خطأ في يوم آخر، وما هو حق في رأي فريق ربما كان باطلًا في رأي آخرين…».
ويضيف: «إنّ هذين الفريقين المتشادين في فهم الحقيقة يعتبران اليوم كلاهما على خطأ، فالمنطق الحديث لا يميل نحو فريق منهما دون الآخر، إذ هو يكاد الآن يحكم بأنّ الحقيقة ذاتية وموضوعية في آن واحد: أي أنّ الحقيقة، على هذا الاعتبار تخلق الفكر ويخلقها الفكر في نفس الوقت، فكلٌ منهما سبب للآخر ونتيجة له أيضًا. يرى (مانهايم)، وهو من دعائم هذه المدرسة الجديدة في المنطق، أن الحقيقة موجودة خارج العقل البشري، أي أنها ليست من خلق هذا العقل، ولكنها مع ذلك ذات أوجه متعددة. فالعقل حين ينظر إليها لا يستطيع في الغالب أن يطلع إلا على وجه واحد منها ولذا فهو لا يأخذ عنها صورة كاملة. وبعبارة أخرى: إن العقل يقتبس من الحقيقة الخارجية جزءًا ثم يضيف إليها من عنده جزءًا آخر ليكمل بذلك صورة الحقيقة كما يتخيلها. وهذا هو الذي جعل كل فرد منا يحمل حقيقته الخاصة كما يحمل حقيبته. ويمكن تشبيه الحقيقة بالهرم ذي الأوجه المتعددة حيث لا يرى الإنسان منه إلا وجهًا واحدًا في آن واحد. وقد يرى أحدنا وجهًا معينًا من وجوه الهرم هذا اليوم ثم يتحول عنه إلى غيره غدًا، وهو في كل يوم مغمور بما يرى متعصب له إذ يعتبر كل الناس ما عداه مخطئين».
تتالت بعدها الأعمال والمؤلفات ليقدم الوردي باقة متميزة من الكتب التي أَغنت المكتبة العربية ومنها: وعاظ السلاطين – أسطورة الأدب الرفيع – مهزلة العقل البشري – الأحلام بين العقيدة والعلم – منطق ابن خلدون – لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث – دراسة في طبيعة المجتمع العراقي .
ليتربع بذلك عالم الاجتماع العراقي علي الوردي على عرش علم الاجتماع في المنطقة متجاوزًا الجميع بأفكاره وأبحاثه ومقولاته الشهيرة التي ستبقى محفورة في ذاكرة الأجيال.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست