إن البحث عن خير مثال يجسد ارتباط السياسي بالعسكري وتبعيته له، يقودنا مباشرة للحديث عن الجزائر، والتي تضطلع فيها المؤسسة العسكرية بدور مركزي وحاسم في صناعة النخب السياسية والوصول بها إلى سدة الحكم، ومن ثم التحكم من خلالها بدواليب السياسة في تجسيد حقيقي لمفهوم «الدولة الأوليغارشية». وقد استمد العسكر الجزائري سلطته هذه من خلال الأدوار التي لعبها في مختلف المحطات السياسية التي مر بها البلد، وأيضًا من خلال أسبقيته الدولة نفسها في الوجود، حيث تدخل الجيش في السياسة في أكثر من مناسبة عبر رسم الخرائط السياسية، وتسيير المراحل الانتقالية التي عرفتها الدولة الجزائرية.
ويظهر ذلك جليًّا من خلال تدخله في الانتخابات التشريعية لسنة 1991، والتي فاز بها إسلاميو جبهة الإنقاذ بعد هزيمة غير متوقعة لجبهة التحرير الوطني المدعوم من العسكر، حيث حصدت الجبهة حينها ما مجموعه 188 مقعدًا برلمانيًّا من أصل 231، ما دفع أصحاب القبعات إلى التدخل لإلغاء الانتخابات وفرض مرشحهم آنذاك «اليمين زروال»، وهو ما نتج منه ما يسمى اليوم بالعشرية السوداء في الجزائر، والتي راح ضحيتها آلاف المواطنين الجزائريين نتيجة تدخل العسكر في العملية الديمقراطية وفرضه الأمر الواقع، وما رافق ذلك من أحداث دامية. وقد عرفت هذه الفترة اغتيال الرئيس الجزائري محمد بوضياف على يد أحد حراسه الشخصيين، فيما قيل عنه تصرفًا فرديًّا من هذا الأخير، بينما وجهت أصابع الاتهام للجيش الجزائري خاصة مع مواقف بوضياف الداعمة للتقارب مع المغرب ومكافحة الفساد في البلاد.
كما أشرفت قيادة الجنرال الراحل أحمد قايد صالح على المرحلة الانتقالية الأخيرة التي عرفتها البلاد إبان الحراك الشعبي الذي أسقط نظام عبد العزيز بوتفليقة سنة 2019، لينصب الجيش من جديد الابن البار للنظام السابق «عبد المجيد تبون» رئيسًا جديدًا للبلاد بعد انتخابات كانت مثار شكوك عديدة عبر عنها عدد من السياسيين الجزائريين أبرزهم مرشح حركة الانفتاح المعارضة عمر بوعشة، والذي أعلن انسحابه من السباق الرئاسي لعدم نزاهته، خاصة ما تعلق منه بجمع التوقيعات المطلوبة للترشح، حيث تساءل حينها: كيف استطاع بعض المرشحين جمع ملايين التوقيعات في وقت وجيز؟
وقد اتخذت «الدولة – الثكنة» في الجزائر ومنذ نشأتها خطابًا معاديًا تجاه المغرب، متناسية دعم المملكة المستميت لثورة التحرير الجزائرية، والذي دفع المغاربة حياة أبنائهم ثمنًا له. غير أن نظام أحفاد الأمير عبد القادر – كما يحلو لبعض الجزائريين توصيفهم به – كان له موقف آخر بجهر العداء للمغرب واتهامه المتكرر له باستهداف الأمن والاستقرار الجزائريين، وكأن المغرب هو من يحتضن ويمول ميليشيات إرهابية تدعي أحقيتها على جزء من التراب الجزائري، وهو من يفتعل نزاعات تعيق التنمية في المنطقة المغاربية. حيث دأب النظام في الجزائر على عزف أنشودتي الأمن والاستقرار لخلق نوع من الإجماع الوطني كلما ارتفع سقف مطالب الشارع الجزائري المنادي بالإصلاح الحقيقي والقطع مع الحقب السابقة وليس إعادة إنتاجها من خلال وجوه جديدة، وهو ما طالب به الشعب الجزائري مرارا وتكرارا في احتجاجات 2019 التي رفعت الشعار الشهير «يتنحاو كاع» بمعنى «يرحلون جميعًا».
ومنذ تثبيت المؤسسة العسكرية للرئيس الحالي، عبد المجيد تبون، اتخذ العداء للمغرب منحى تصاعديًّا، خاصة بعد النجاحات الكبيرة والاختراقات الدبلوماسية التي حققها المغرب في سياسته الخارجية المرتبطة بقضية الصحراء المغربية فيما بات يعرف بـ«دبلوماسية القنصليات»، وهو ما امتعض منه الجانب الجزائري وعبر عن ذلك بتسخير آلته الإعلامية لمهاجمة المغرب والمس بثوابته في مشاهد أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها تتنافى مع القواعد الأخلاقية الإنسانية عموما وقواعد الممارسة الإعلامية بشكل خاص.
و قد دفعني الفضول للاطلاع على العدد الأخير لمجلة شهرية تصدر عن العسكر الجزائري تحمل اسم «الجيش»، والتي تضمنت صفحاتها كمًّا هائلًا من المغالطات والخطابات التحريضية التي تستهدف تجييش مشاعر الشعب الجزائري المغلوب على أمره؛ إذ لا تكاد تخلو مقالات المجلة من اسم المغرب، وتكررت عبارات كثيرة من قبيل : المؤامرة ضد الجزائر – أعداء الجزائر – بعض الجيران – مخدرات قادمة من المغرب… في تحرش سافر بالمملكة المغربية، وقد استوقفني حوار للرئيس المنصب، عبد المجيد تبون، تحدثت عنه المجلة قال فيه «بوجود لوبيات في فرنسا أحدهم تسيطر عليه جيراننا» في تلميح مباشر للمغرب، ولعل في ذلك اعتراف ضمني من الرئاسة الجزائرية بقوة المغرب السياسية وقدرته على التأثير في القرار السياسي الفرنسي، في وقت ما زالت فيه القيادة الجزائرية تستعطف فرنسا للاعتذار عن جرائمها الاستعمارية في هذا البلد، بغية استغلال الاعتذار الفرنسي المنشود لتلميع صورتها أمام الشعب. كما اتهم تبون المغرب بتسخير جيوشه الإلكترونية لاستهداف الجزائر وإضعاف معنويات جيشها الذي قال عنه أنه وصل لدرجة من الاحترافية جعلته بعيدًا عن السياسة على حد قوله، ومن يصدقك يا تبون؟
وفي الإطار نفسه أفاد رئيس مجلس الأمة الجزائري صالح قوجيل في تصريح حصري خص به المجلة المذكورة بتعرض الجيش الوطني لبلاده لحملة مسعورة من أطراف خارجية معروفة تستهدف إضعافه وفصله عن الشعب الجزائري على حد وصفه في إشارة هو الآخر للمغرب. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على ضعف الخطاب السياسي للنخبة الجزائرية، عبر تكرار الخطابات نفسها، بل جعلها عرفًا سياسيًّا لا يستقيم العمل السياسي الجزائري إلا بالخوض فيها متلصصًا بذلك من قضايا داخلية يعتبرها الشعب الجزائري أكثر أهمية بالنسبة له، كقضية استرداد الأموال المنهوبة من طرف رموز النظام السابق، خاصة بعض الأسماء المهمة مثل عبد العزيز بوتفليقة وشقيقه السعيد بوتفليقة وبعض الجنرالات كالجنرال توفيق، وخالد نزار اللذين يصفهما الشارع الجزائري بصناع الرؤساء.
ولم تفوت المجلة المعسكرة فرصة اليوم العالمي للمرأة الموافق 8 مارس (آذار) من كل سنة للإشادة بالبطولات الوهمية لبعض النساء الانفصاليات أمثال «أميناتو حيدر» و«فاطمة المهدي »، واصفة إياهن بالمناضلات ضد انتهاكات حقوق الإنسان، وكأن ما يرتكبه النظام الجزائري من تجاوزات في حق معارضيه وفي حق الساكنة المحتجزة في مخيمات الذل والعار لا يرقى لمستوى الانتهاكات الحقوقية، متناسية إقدام الجيش الجزائري العام الماضي على قتل شابين صحراويين من المنقبين عن الذهب في منطقة تندوف عبر إضرام النار فيهما في مشهد مصغر للهولوكوست، وهو ما أكده منتدى دعم مؤيدي الحكم الذاتي ( منتدى فورساتين ) في بلاغ له، كما نددت به لجنة حقوق الإنسان بحركة «صحراويون من أجل السلام» مطالبة المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته في حماية ساكنة المخيمات التي تعاني القمع والاحتجاز والاسترزاق بقضيتهم الإنسانية. غير أن مثل هذه القضايا لا نجد لها صدى في الإعلام الجزائري الذي تتسابق مختلف منابره نحو نيل رضا العسكر وهباته المالية من خلال الاجتهاد والإبداع في مهاجمة المغرب وتقمص دور الضحية، عبر الادعاء باستهداف المملكة لاستقرار الجزائر وأمنه، حيث تبنى النظام الجزائري نظرية المؤامرة لتغطية فشله في تدبير المرحلة الانتقالية التي تمر منها الجزائر، جاعلًا من «العداء للمغرب» عقيدة سياسية وعسكرية يعتبر الخروج عنها شذوذا وخيانة للوطن، فحتى الرياضة نفسها – والتي يفترض أن لا يطولها نشاز السياسة – لم تسلم من استغلال السياسة الجزائرية لها في اتهام المغرب بالانحياز والتأثير في قرارات الهيئات الرياضية الأفريقية والتآمر ضد الفرق الجزائرية، ويذكرني هذا بقول أحدهم : «إن الذي يعيش في القاع، من الطبيعي جدًّا أن يعتقد أن كل ما يسقط عليه من الأعلى يستهدفه».
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست