تأثير نقاط المياه
اعتقل أحد أعزّ أصدقائي منذ عامين، وكنت أزوره فأتحدث إليه دقائق معدودة، ثم نتبادل بعض الرسائل خلسة، كانت من أوائل الرسائل التي أعطانيها في بداية اعتقاله قصيدة مرفقة بمقال من تأليفه يتحدث عن أهمية العلم والتعلم ويحث شباب الأزهر عليه وأنه السلاح الأقوى للتغير كما قال الزعيم المناضل نيلسون مانديلا. كتمت امتعاضًا واستهجانًا من موقفه، فقد اعتقل بغير جرم وبعد اعتقاله بأيام يكتب لي ليحثني على العلم والتعلم في وطن لا يحترم العلم ولا العلماء، بدلًا من أن يشجعني على النضال والاستمرار؟ أيّ علم وأيّ تعلم تتحدث عنه يا صديقي!
دعونا نعترف – دون تعميم – أننا أمام شعوبٍ عربية مُغيَّبة مُضلّلة في أغلبها، ينخر فيها الجهل والأميّة واللاوعي والفساد والفقر والمرض منذ قرون حتى أردتها مصابةً بكثير من آفات المجتمعات كالعنصرية واللاإنسانية والتطرف والإقصاء والغلو والتعصب والاستقطاب والشيطنة والقولبة والتعميم والتصنيف وغيرها.
وعليه؛ فلو تخيَّلنا جدلًا وصول فئة صالحة مصلحة إلى سُدَةِ الحُكم، مع وجود أغلبية من المجتمع تهلل وتصفق للفساد والإفساد وتحب وتمجد من يضللها ويغويها ويسكّنها ويخدرها، أضف إلى ذلك قائمة المنتفعين من الفساد والمحاربين بكل شراسة للبقاء على مصالحهم من جرائه، مسخرين في سبيل ذلك كل الوسائل التي تشكّل وعي الأمم، وعلى رأسها الإعلام. حيث الإعلام المُمَكن له في العالم العربيّ هو المُسخُ بعينه. فلن نفرغ إلا أن معركة التحرير والثورة الكبرى يجب أن تكون تحرير الأمم المغيبة المضللة من الجهل وغياب الوعي والعبور بها إلى شاطئ الإنسانية والعلم والوعي. سنحتاج إلى تغيير مفصليّ في فهم ووعي وثقافات الشعوب، مما يتطلب وقتًا وجهدًا لا بأس بهما، فالمعركة الراهنة هي معركة الوعي أولًا وقبل كل شيء.
دعونا نفترض أننا لن نحقق القصاص الذي نرنوا إليه قريبًا، وحتى قد لا يتحقق القصاص والعدل في الدنيا من كل من سفك وقتل وأفسد، دعونا نتقبل افتراض أننا لسنا الجيل الذي سيحرر الأقصى وأن تحريره قد يكون على يدِ أجيال أخرى قد نعد نحن عدتها من الآن. دعونا نتصالح مع هذه الأفكار ولو من قبيل الافتراضات، حتى لا نحملّ أنفسنا ونكلّفها ما لا تطيق.
قد لا يكون متصورًا أن التغيير على المستوى الشخصي والاستزادة والترقي في مراتب العلم بمختلف فروعه هو الشرارة والشعلة التي ستقوم وتغير الأمم وتنهض بها. وانطلاقًا من هذا التغيير الشخصي واستثماره يأتي تأثير نقاط المياه التي تقع فتحدث حولها بعض الدوائر، أو نقاط المياه المتتالية التي تشق الصخر ولو بعد حين. فلو أصبحنا محاكاة لنقاط المياه، لغير كل منّا نفسه وتعلم ثم علّم ليؤثر ولو على نقاط صغيرة في نطاق دوائر تأثيره ولو أهله وأقرانه، وكلما زادت دوائر التأثير كلما زاد النفع والتغيير. إن الصخور المتكتلة التي تقف عائقًا في سبيل تغيير الأوطان، قد تتشقق وتتفتت بفعل قطرات من المياه المتتالية المتتابعة، تمامًا كما وصف القرآن: “وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء”.
علمنا أحد أساتذتنا أن الدولة بصورتها الحالية – الدولة القومية الحديثة – تنزع مفهوم تكليف الإنسان، فتصير بذلك هي الحاكم والصانع والطبيب والمعلم الأوحد، وصرنا تبعًا لذلك نطالب الدول – التي هي أصلًا فاسدة – بكل هذا. والحقيقة أننا مكلفون وأننا يجب أن نتخطى الدولة لنقوم على أمور أنفسنا بأنفسنا قدر المستطاع. ومن هنا كانت أهمية ما أسماه لنا: المجتمعات الوسيطة، أو ما قد نصطلح عليه ليدخل تحته كل الجمعيات الأهلية والخيريّة ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية والأنشطة التطوعيّة والأوقاف. صحيحٌ أن الدول الفاسدة تحارب وجود أيّ مجتمعات وسيطة قد تقوم بدورها الذي هجرته أو أتلفته أو تحرجها بأي شكل كان. فما أحوجنا إلى تنميّة الإنسان تمامًا كاحتياجنا إلى الأنشطة الخيريّة وتأمين المأكل والملبس للفقراء والمعوزين.
مكثت سنتين لأدرك قيمة ما أرسله لي صديقي من محبسه. ترسّخ في ذهني أخيرًا وبعد تغيرات عصيبة أن التغيير على نطاق دوائر الاستطاعة هو كل ما تبقى لنا وأن المعركة الحالية هي معركة الوعي والعلم وتنمية الأفراد والمجموعات. إلى أن نصل إلى الكتلة الحرجة التي تستطيع أن تمتلك أدوات التأثير في المجتمع وقيادته.
النضال الأخير
يبقى نضالٌ أخيرٌ يجب أن لا نتخلى عنه، ألا وهو النضال لتحرير آلاف القابعين في المعتقلات بلا جرم ولا ذنب، فتلك معركة لا يجوز لنا أن نتنصل منها أو نتنكر لها. يحتاج هذا النضال لكثير من الضغط الدوليّ والإعلاميّ والحقوقيّ الدؤوب لمحاولة انتزاع فلذات أكبادنا من براثن الأنظمة المتعشطة للعنف والدماء والتعذيب. يجب علينا أن نكوّن رؤية واضحة ونمتلك أدوات مؤثرة للضغط لصالحهم دون أن ندفع بمزيدٍ من الشباب إلى غياهب المعتقلات.
خاتمة
قبل أن نسعى إلى سُبُل غايات الثورات من التغيير والحرية والعدل، علينا أن نُحيي هذه القيم من أنفسنا ابتداءً. فإننا قد لا نملك تغيير العالم، وقد حاولنا في جولة تغيير أوطاننا فما تمكنّا، لكننا لن نفقد أبدًا الحق والوسائل للتغيير من أنفسنا وممن حولنا، فهذا آخر ما تبقى لنا، وهو لو تعلمون كثير.
ليست هذًه أبدًا دعوةً لمداهنة الظلم والتعايش معه، بل ينبغي مجابهته وتسميته باسمه، وينبغي كذلك الإعداد له بالعقل والفكر والعلم والوعي، حتى تنهض الأمة من كبوتها.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست