الفطرة الإنسانية هي مجموعة من الصفات الكلية والقيم العليا التي اجتمع عليها البشر مذ خلقوا، وهم ليس لهم يد في الاتصاف بهذه الصفات أو الإيمان بهذه القيم، وإنما هي مغروسة في أصل نفوسهم، وكأنها نظام التشغيل الأولي الذي وضعه الخالق بالإنسان حتى يبدأ الحياة ويعيش كإنسان ذي بعدين، البعد المادي الطبيعي والبعد الروحاني المعنوي. مع ضرورة الإشارة إلى أن هذه الفطرة معرضة للتغيير والتبديل والانحراف تبعا لما يتعرض له الإنسان من مؤثرات داخلية وخارجية.
ولا شك أن الميل للجمال والشعور به هو أحد مكونات الفطرة، فالإنسان بطبعه يميل إلى الجمال، الذي هو شعور الإنسان بالرضا والمتعة وتحقيق اللذة على أثر تعرضه لمؤثر ما يحتوي على صفات هي التي حققت هذا الشعور، وبهذا يكون الجمال كقيمة مطلقة متجذرًا في فطرة كل إنسان، أما تأثر الإنسان بالجمال الموجود في الأشياء فهو أمر نسبي يختلف من شخص لآخر بحسب الكثير من المؤثرات التي تؤثر على نظرة الإنسان للجمال وشعوره به، وبالتالي يختلف البشر في استقبالهم للجمال في الشيء الواحد تبعا لاختلاف المؤثرات المكوّنة للتذوق الجمالي لديه.
إن طبيعة حياة الإنسان تشير وبوضوح إلى تأصل قيمة الجمال فيه، فالله قد جعل الطبيعة من حوله مليئة بكل صنوف الجمال، ولو لم يكن الجمال صفة متأصلة بفطرة الإنسان لما جعل الله الكون جميلا إذ يكفي الإنسان وقتها حياة بالأبيض والأسود ليمضي فيها، وكذلك لما غرس الله في الإنسان القدرة على تذوق الجمال والشعور بتلك الهزة التي تنتابه عندما يتعرض لما يثير عنده الشعور بالجمال.
وربما لا يستقيم ما سبق مع واقعنا الذي نجد فيه من يميلون للقبح سواء المادي أو المعنوي، فتجدهم يميلون للأبنية القبيحة والفنون الوضيعة والأفعال المشينة، لذا فيجب أن أشير هنا أن هذا ليس دليلا عن عدم شعورهم بالجمال ولكن هذا يشير إلى تغير بوصلة الجمال عندهم، فالإنسان بطبعه لا يميل إلى ما يشعره بالألم، ولولا أن قبح هذه البنايات ووضاعة هذه الفنون وفظاعة هذه الأفعال تحقق نوعًا من اللذة لأصحابها لما مالوا نحوها ولما اختاروها، وعلى من يريد أن يعيد بوصلتهم الجمالية لسابق وضعها أن يبحث عن الأسباب التي أدت بهم إلى هذا الوضع، فلا شك أن هناك من المؤثرات الداخلية والخارجية ما أثر على بوصلتهم الجمالية فجعلهم يشعرون باللذة مما كان يجب أن يشعرهم بالألم. إن هذا أمر يتعلق بأسلوب الحياة التي يعيشونها، ومجموعة القيم والصفات المكتسبة من بيئتهم، وطبيعة التربية التي تلقوها، ومقدار الوعي المكتسب، والأفكار التي أقنعت عقولهم.
وكأمثلة على ذلك، فإن المتحرش لا يشعر بالألم بل بالمتعة التي ربما مصدرها شعوره بالانتقام من المجتمع الذي ظلمه، أو شعوره بالكبت، أو شعوره بعدم قدرته على الحصول على تلك التي يتحرش بها، أو فهمه للرجولة من منطلق القوة والهيمنة والسيطرة، كذلك المتذوقون للفنون السطحية أو الوضيعة (على حسب وصف خصومها)، فتقديرهم لهذه الفنون ربما مصدره طبيعة الفنون المنتشرة في البيئة المحيطة، أو أنها تعكس القيم السائدة في المجتمع كقيم الفهلوة والبلطجة والذكورية والفحولة، كذلك الأنماط المعمارية المصمتة حيث العمارات كالصناديق، والمساحات الضيقة، والألوان الصارخة، والشقق الخالية من الشرفات، فهي ربما تعكس سيادة النزعة الفردية في المجتمع حيث عدم الحاجة لمشاركة الآخرين.
فالأهم شقة الفرد من الداخل لا من الخارج مما يجعله يفضل ضم مساحة الشرفات للداخل لتزداد مساحة الشقة دون الحاجة لمشاركة المجتمع عبر الشرفة، أو بسبب الظروف الاقتصادية، أو لنمط الحياة المتسارع الذي لا يسمح للإنسان بتذوق الجمال المعماري حيث يلهث نحو عمله، أو الانشغال بماديات الحياة عن العلاقات الحميمة مما يجعل الشرفة بلا قيمة حيث لا تجتمع فيها الأسرة والأصدقاء في الصيف على عكس بنايات الزمن الماضي التي اشتهرت بما عرف باسم (الڤراندة) وهي شرفة واسعة كأنها حجرة استقبال قد تتعدى مساحتها عشرين مترًا، ومن الملاحظ في هذه الأمثلة أنها كلها تسبب نوعًا من اللذة والمتعة لأصحابها لأنها تتناسب مع المؤثرات التي تؤثر على بوصلتهم الجمالية التي حددت قيم الجمال عندهم، لأن هذه الأمور إن كانت تسبب الألم لسعى أصحابها إلى تغييرها حتى يجنحوا إلى ما يسبب لهم المتعة واللذة مما سيؤثر على نظرتهم للجمال.
فإذا نظرنا إلى الأسباب التي أثرت على البوصلة الجمالية لإنسان العصر الحديث لوجدنا أن السبب الرئيسي الذي هو قلب الأسباب كلها هو (الحداثة) والتي صارت أسلوب حياة يفرض على إنسان العصر الحديث عددًا من القيم التي أثرت على بوصلته الجمالية وبالتالي على منتجاته الجمالية من فنون وعمارة وعلاقات وأفعال ومواقف وغيرها، فهذه (الحداثة) قد فرضت على الإنسان الكثير من القيم والمبادئ ومنها:
1- إعلاء النزعة الفردية مما جعل المنفعة الفردية هي الإله المعبود، وبالتالي صار الجمال متحققًا فيما يحقق المتعة الفردية ولو على حساب بقية المجتمع، فيفكر كل فرد في منفعته الخاصة، ولا يلتفت إلى المنفعة العامة إلا لو كانت تحقق المنفعة الفردية.
2- إعلاء القيمة المادية على حساب القيمة الروحية والمعنوية، وبالتالي صار الجمال حسيّا يعلي من شأن المادة، فنجد الفنون مثلا تعتمد على جماليات الجسد وإغراءات العري، والإثارة الحركية، والإبهار البصري ولو على حساب القيمة المعنوية فيه.
3- إعلاء قيمة المكاسب النقدية على حساب المكاسب الروحية، وبالتالي سعى الجمال خلف المكاسب النقدية، وبالتالي صار الفنان يحاول تلبية متطلبات المتلقي ولو كانت سطحية حتى يضمن انتقال أموالهم إلى جيوبه، وصارت القيمة الاجتماعية والطبقية أهم من القيمة الجمالية، وبالتالي صار السعي خلف الموضة التي تثبت القيمة الطبقية أهم من مدى الجمال المتحقق في هذه الموضة.
4- كبت القيمة الروحية وعدم الاعتراف بها مما يشعر الإنسان بالكبت والحاجة الروحية فيبحث عنها فيما يغيبه عن حقيقة عالمه المادية فينطلق نحو الديانات شديدة الروحية المهملة للمادة، أو الفنون الصارخة المغيبة للعقل، أو استخدام المواد المؤثرة على العقل كالمخدرات بأنواعها.
إن الإنسان لن تستقيم القيمة الجمالية في فطرته قبل أن يعي أنه ذو بُعْد روحي مثلما هو ذو بعد مادي، وهذا البعد الروحي هو ذلك الذي يُعْلِي شأن القيمة على المادة، والأخلاق على المنفعة، والإنسان على الأشياء، والوجدان على الجسد والعقل، هو ذلك البعد الذي يشعر معه المرء أن قيمته تعلو فوق قيمة ذلك الكائن المحتاج للطعام والجنس والمتعة غير المنضبطة، فيميل إلى كل ما يثبت إنسانيته، ويرفض كل ما يخرجه عنها كالتفسيرات الدينية المُدَّعِيَة امتلاك الحقيقة المطلقة دون غيرها، والفنون الفاقدة للقيمة الإنسانية، وأسلوب الحياة اللاهث خلف المنفعة، فهو ربما يضحي بمنفعته في مقابل تحقيق القيمة الإنسانية التي يؤمن بها.
ولكي يحدث ذلك لابد من إعلاء قيمة الإنسان في نفوس البشر، وهذا تحدٍ صعبٌ للغاية حيث تقف وحوش الحداثة في طريق تحقيق ذلك، وهذا يعني ضرورة إيجاد أسلوب حياة جديدة يخرج على قيم الحداثة المتوارثة والتي هي توغلت في كل مناحي الحياة حتى بات التخلص منها مستحيلا، ولكننا يجب أن نفرق بين ظواهر الحداثة وبين قيم الحداثة، فالظواهر يمكن التعايش معها وتفصيلها وفق القيم التي يؤمن بها المرء، أما قيم الحداثة فهي أصولها التي لا تتغير إلا بكسر الحداثة ذاتها.
وبسبب هذه الصعوبة في مواجهة الحداثة يجب مواجهتها بما هو أقوى منها، وأكثر تجذّرًا في النفوس، وأقصد بذلك قيمة الدين الذي أصابته الحداثة بالكثير من العوار، وكان لها الفضل أيضا – ورب ضارة نافعة – في الكشف عن أوجه القصور في الفكر الديني – البشري – مما يدفعنا الآن لمحاولات أولية في إصلاح أوجه القصور تلك حتى يكون الفكر الديني متسقًا مع واقع العصر الحديث، ولمواجهة الحداثة بالدين يجب إعادة اكتشاف الدين من جديد، وذلك بتفسيره تفسيرات أكثر إنسانية وروحانية مع الأخذ في الاعتبار مرونتها وقدرتها على التعايش مع المخالفين حتى يكون الدين في خدمة الإنسان (ولهذا نزلت الأديان في الأساس)، ولا يكون الإنسان في خدمة الدين، فنتذكر أن هدم الكعبة حجرًا حجرًا أهون عند الله من سفك دم بريء، ولن نعدم أمثلة على ذلك في كل الأديان الأخرى.
إن الجمال يبدأ من الإنسان وينتهي عند الإنسان، والأديان يجب أن يبدأ تفسيرها من الإنسان وينتهي عند الإنسان حتى يكون متسقًا مع الجمال ومعبرًا عنه، بمعنى أن يقدم الدين التفسيرات التي تعلي قيمة الإنسان متسقة مع ظروف الواقع ومقتضيات الجمال، فأينما كانت المصلحة فثم شرع الله، وحيثما تتحقق قيمة الإنسان فقد حقق الدين غايته
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست