بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ازدادت وتيرة الاحتجاجات الشعبية التي تطالب بريطانيا بالجلاء عن مصر. فالأمور فاقت الحد، وطفح كيل المصريين بعد أن أذاقهم الاحتلال هوانًا على هوانهم طيلة الحرب التي مصت دماءهم مستغلًا بنود معاهدة «1936» المهينة، وشاهد المخلصون بريطانيا، وهي تسابق الزمن بمشاركة الولايات المتحدة لنقل العصابات الصهيونية إلى فلسطين فزادهم ذلك إصرارًا على محاربة الاستعمار وأعوانه في كل مكان.. فكانت أحداث كوبرى عباس 1946، واشتباكات القصر العيني التي تصدى لها النقراشي بأقصى درجات العنف؛ مما زاد الوضع سوءًا.

بعد ذلك التصعيد رأى النقراشي اتباع سياسة التهدئة والاستجابة للمطالب الشعبية، وذهب ليطالب بجلاء بريطانيا عن مصر والسودان دون أي شروط في جلسة مجلس الأمن 1947، ولكن مجلس الأمن كما هو متوقع لم يتخذ أي قرار، وترك القضية معلقة بعد أن تحججت لندن بأن معاهدة «36» سارية حتى «56»، والأوضاع في المنطقة لا تسمح بخروج بريطانيا من مصر بالكامل.

استمر الشعب في حراكه، وكان الطلاب دائمًا في قلب الحراك للمطالبة بالجلاء والتنديد بالخونة الذين ينسقون مع الاحتلال في الداخل والخارج، ويساعدون في ضياع فلسطين كما أضاعوا مصر. فقد كانت الجيوش العربية غير الرسمية والفدائيون قاب قوسين أو أدنى من النصر في المعارك التي اندلعت نوفمبر (تشرين الثاني) 1947عقب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم «181» بتقسيم فلسطين.

ولكن بعد اندلاع المعارك الرسمية فور نشوء إسرائيل أمدت الحكومة الجيش المصرى بأسلحة فاسدة من مخلفات الحرب وقبلت بهدنة لمدة 90 يومًا؛ مما مكن عصابات الهاجانا الصهيونية من جلب المزيد من الأسلحة والمتطوعين فانقلبت نتائج المعارك لصالح العدو بعد أن كانت النتائج تشير إلى تقدم عربي بارز على جميع جبهات القتال.. ومن ثم اشتعلت الأوضاع أكثر فأكثر في الداخل المصري، وأصبح التركيز على العمل الفدائي، وحرق معسكرات الإنجليز، وأخذت إرهاصات تغيرات كبرى تلوح في الأفق.

بعد اغتيال النقراشي وحتى تولى مصطفى النحاس رئاسة الوزارة للمرة الخامسة 1950 كانت الهدنة الدائمة قد وقعت 24 فبراير (شباط) 1949 في «رودس» بين الجيوش العربية والكيان الناشئ بعد أن سيطر اليهود على 70% من أرض فلسطين وشرد أهلها. وترتب على ذلك زيادة حدة العمليات الفدائية ضد الخونة والإنجليز في منطقة القناة؛ فقرر النحاس بحنكته السياسية تدارك الموقف، واختار أن يكون جزءًا من العمل الثوري المناوئ للاستعمار والملك الذي باتت أيامه في القصر معدودة.

فأعلن في أكتوبر (تشرين الأول) 1951م من داخل مجلس النواب المصري إلغاء معاهدة «36» التي كان قد وقعها مع الإنجليز، وترك الحرية للشعب في الكفاح المسلح ومهاجمة المعسكرات البريطانية وعمدت الحكومة على تسخير جل إمكانياتها لمساعدة الفدائيين. وأخرجت هذه الأجواء أفضل ما في المصريين عندما توحدوا جميعًا خلف عدو حقيقي؛ حتى أفراد البوليس المصري أظهروا بطولات رائعة تسجل لصالحهم عندما انضموا للأهالي في العديد من المعارك، كالمعركة التي دارت قرب معامل لتكرير البترول والمعروفة «بزيتية شل»، وكذلك عندما رفضوا تسليم مبنى محافظة الإسماعيلية للإنجليز، وفضلوا الموت داخله يوم 25 يناير (كانون الثاني) 1952.. في اليوم التالي عمت الفوضى البلاد، وحرقت القاهرة، وظلت الأوضاع على هذا الحال من الاضطراب حتى انقلاب يوليو (تموز).

لم يكن للنحاس وهو يقوم بالخطوات السابقة أو في أي وقت قبل ذلك ميول أو اتجاهات تجعلنا نرميه بواحدة من التهم الجاهزة التى تستخدم اليوم للنيل من الشرفاء، كالإرهاب مثلًا. وإنما كان فقط رجلًا لديه الحد الأدنى من الشعور بالمسئولية تجاه قضايا أمته، وما يكفي من الخبرة التي تمكنه من التمييز بين الجواد الرابح والهالك، وعلى أي أرض يجب أن يقف، الأمر الذي لم يتحل به النقراشي، بالرغم من أنهما خرجا لدنيا السياسة سويًا من باب الوفد، وظلا هكذا حتى الانقسام 1937. فالنحاس «صاحب معاهدة 36» لم يكن أكثر كرهًا للإنجليز والصهاينة من النقراشي «شريك النكبة العربية في فلسطين»؛ ولكنه فقط كان متمردًا على القصر الذي ظل النقراشي وفيًا له تحت كل الظروف ومدركًا للمتغيرات الدولية التي ظل النقراشي غافلًا عنها حتى اغتياله.

لم يشكر التاريخ للنقراشي قيامه ببعض الإنجازات الداخلية، ولكنه أبدًا لم يغفر له موافقته على قرار الملك دخول حرب فلسطين بأسلحة فاسدة ومهادنته للصهاينة حتى تمكنوا من الأرض العربية، فاستبدلنا باحتلال آخر أشد منه إجرامًا. وبالعكس تسامحت الذاكرة الشغبية والتاريخ كثيرًا مع سقطات النحاس على الصعيد الداخلي والتي أحصاها مكرم عبيد في «كتابه الأسود»، وكذلك مع تجاهل حكومته محاسبة المتسببين في فضيحة الأسلحة الفاسدة؛ وذلك بسبب موقفه الأخير من الاحتلال وقيامه بإلغاء المعاهدة معه في التوقيت المناسب.

قياسًا على ما سبق يمكن أن نستنتج بسهولة كيف ستكون ردة فعل النقراشي، ومصطفى النحاس حيال ما يحدث من نكبات وصفقات جديدة تخص فلسطين، وكيف كان كل منهما سيتصرف من موقع مسئوليته كرجل دولة في ضوء الدور الذي تلعبه الشعوب والتي يقع على عاتقها في المقام الأول التصدي للإجرام الصهيوني في كل مكان. كذلك يمكننا أن نخمن أي الطريقين قد اختار من يقبضون على السلطة هذه الأيام في التعامل مع صفقة القرن، وما يصاحبها من مستجدات خطيرة تحدث هذه الأيام على أرض فلسطين.

انشغل العالم في الفترة الأخيرة بـ«كورونا» وفي الخفاء يتم التنسيق على قدم وساق مع رجال الموساد وكبار العسكريين لتنفيذ بنود وخطوات الصفقة بأموال الخليج الذي يظهر نفسه مدافعًا عن السلام ومحافظا على حقوق الفلسطينيين! فكيف ستكون ردة فعل السلطة الفلسطينية على هذه المؤامرات التي يدبرها النظام العالمي لضم البقية الباقية من أرض فلسطين؟ هل ستكون جزءًا في هذه المؤامرة أم متفرجًا عليها، وفي الحالتين هي شريك مسئول؟ كيف تتمنى السلطة أن يذكرها التاريخ؟ في صفحاته البيضاء أم السوداء؟ لماذا لم يلغ رئيس السلطة الفلسطينية اتفاقية أوسلو، وما ترتب عليها، ويعود لصفوف الشعب، ويعلن الكفاح المسلح ضد الاحتلال كما فعل النحاس من قبل؟ في السابق اختار ياسر عرفات طريق النحاس، وأن يختم حياته بشرف كما بدأها.. فأي طريق سيختار محمود عباس؟

إن إلغاء الاتفاقية دون ترك الحرية للشعب في استخدام كافة الوسائل للدفاع عن نفسه، واسترداد حقوقه لن يكون له أي معنى، ولا يغير شيئًا على أرض الواقع. ولا يعد ذلك خروجًا على المواثيق الدولية، بل هو حق طبيعى للدول أن تدافع عن نفسها إذا تعرضت لاعتداء وفق المادة 51 من الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة التى يحتكمون إليها. لقد ظلت الأنظمة العربية تقدم التنازلات الواحد تلو الآخر تحت مسمى حل الدولتين، والمبادرة العربية للسلام وتقسيم القدس، بينما ظل الكيان الصهيوني متمسكًا بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، وضم المزيد من الأراضي يوميًا عبر بناء المستوطنات.

واليوم تقدم الأنظمة العربية لإسرائيل دلالات الرضا والقبول بصفقة القرن عبر مباركة وتقدير الجهود الأمريكية للتوصل إلى اتفاق سلام، وبتمويل الجانب الاقتصادي من صفقة العار. انتهى زمن الشجب والاستنكار الرسمي، ولم يتبق لهم إلا بعض اللقطات الاستعراضية كأن يقوم أحدهم بإلقاء صفقة القرن في سلة القمامة، بينما من تحت الطاولة، ومن فوقها يتباحثون كيف يتم تنفيذها على أرض الواقع.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

صفقة القرن
تحميل المزيد