كان ذلك الصباح مثل كل صباح بالمدرسة الابتدائية، يراجع ذلك الطفل قصيدته قبل بدء طابور الصباح ليلقيها في الإذاعة المدرسية، كان من بين تلك القصائد التي يلقيها قصائد معينة مميزة بالنسبة له، يلقيها بحماسة وقوة وصدق، فاهمًا لمعانيها شاعرًا بها، فينتقل صدق إحساسه إلى الطلاب والمدرسين فيُنصتون هائمين مترقبين الشطر التالي والبيت التالي، حتى يُنهي قصيدته فيضجون بالتصفيق طويلًا، كان يحفظ هذه القصائد عن ظهر قلب، يقرأها قراءة صحيحة يفهم معانيها برغم صغر سنه.
كانت القصائد من هذه النوعية عن “القدس”، فتسمعه يُنشد مرة “القدس يشكوا باكيًا ينادي.. جاء عدو خرّب في البلاد”، ومرة يُنشد “القدس ينادي على الأمة”، ومرة يُنشد “القدس قدسي”، وقصائد أخرى كثيرة عن القدس وفلسطين والأقصى، كان يُحفِظّها له مدرس اللغة العربية، والذي كان أحيانًا يؤلف بعضها، وتمر الأيام تلو الأيام، والقصائد تلو القصائد، ويزداد قلبه تعلقًا بالقدس، ويزداد إيمانه بأنها جزء أساسي من كيانه، قطعة من نفسه، ويطير بخياله شوقًا أنه كبُر وسافر إلى القدس وانضم إلى أهلها ووقف على مكان مرتفع وأنشد قصيدة حفّزت أهلها فقاموا معًا يحملون ما توافر لهم من أسلحة وحاربوا حتى حرروا القدس – بهذه البساطة والسذاجة! – ولا عجب فقد كتب على باب غرفته اسم “صلاح الدين الأيوبي” وآية “إن تنصروا الله ينصركم”، وكأنه في هذه السن أدرك بفطرته الطفولية السوية أنه ليصبح هناك صلاح الدين فالأمر مقرون بنصر الله والذي هو مقرون بأن نبدأ نحن وننصره أولًا!
هو يذكر دائمًا ولا ينسى عندما حكى لهم المدرس أثناء الحصة عن عمر بن الخطاب وهو يفتح القدس، ويكاد يعيش ذلك المشهد المهيب الجليل ساعات وساعات موقنًا بأنه يومًا ما سيكون هناك ويعيش أجواء عظيمة كالقصائد التي يلقيها وكالتي عاشها وتخيلها في مشهد عمر في القدس، لم يكن يومًا يفهم السياسة أو يتكلم فيها ولن يكون كذلك أبدًا، فقد كان الأمر بالنسبة له عقيدة دينية وقبل ذلك فطرة إنسانية بديهية، تلك الحالة التي عاشها معظم الشباب المصري بل والعربي من جيلنا في طفولتهم، وتلك كانت أمانينا واعتقاداتنا تجاه القدس، وكبُر جيلنا ولم تعُد القدس بالنسبة لنا كما كانت، ولم تعُد القدس تخصنا، فلم تعُد القدس قدسنا!
كيف تكون القدس قدسنا؟ قد رأينا أملًا قد قُتل كنا نرجوه في كرامة نشعر بها وفي هواء خالٍ من الذل والهوان، وهل يُعقل أن تُحرر أرضًا وأنت في قيود العبودية؟ فكيف للعبد أن يُحرر قبل أن يتحرر؟!، وعندما ظننا أننا على موعد مع التحرير ودارت في مخيلاتنا سيناريوهات الأمل القادم وأننا بعد التحرر نستيطع أن نُحرر قدسنا فما هي إلا أشهر وعُدنا نشعر بالعبودية النفسية بل والجسدية، فلم تعُد القدس ضمن جدول أعمالنا المستقبلية، وما لنا في ذلك بُد بل هي القيود التي قيدتنا بها أوطاننا ونحن أبرياء! أو قُل هي القيود التي تقيدنا بها في أوطاننا مُطيعين مُذعنين.
وكيف تكون القدس قدسنا؟ وقد غير الإعلام عقيدتنا تجاه القدس، فترى أحدهم يُحيي “الخواجة الإسرائيلي” على حد تعبيره ويشكره أنه يحارب الإرهاب هناك، وترى آخر يُبرر ليل نهار عدم تحركنا من أجل القدس، وآخر يصف العمليات التي كنا نظنها استشهادية بأنها انتحارية ويأتيك بدلائل وأقوال، فترانا في المواصلات العامة يقول الجيل الأكبر منا أن حماس إرهابية وأنهم مدعومون من إسرائيل، وأن ما يقومون به كفر وحرام!
وكيف تكون القدس قدسنا؟ ونحن نتابع “أفيخاي أدرعي” على فيس بوك ونرى نعومة وحلاوة حديثه وردوده ومنطقه، وأحيانًا نسبه ونشتمه ولكن من داخلنا مُعجبين بل مقتنعين بكثير مما يقول وما يفعل، وما لنا بُد في ذلك وهو يتكلم أفضل من شيوخنا ويقنعنا أكثر منهم، وأيضًا شيوخنا كان الله في عونهم منشغلين عنا في هذا الجانب لأن لديهم عملًا كثيرًا في إثبات واجبات الطاعة والولاء والعبودية لحكامنا، والبحث عن دلائل شرعية مقنعة لظلمهم إيانا وسجنهم بناتنا وقتلهم شباب جيلنا!
وكيف تكون القدس قدسنا؟ والعقيدة العسكرية لجيوش بلادنا أنفسهم قد تحولت (بقدرة قادر) من الاعتقاد بأن إسرائيل هي عدونا الأول إلى القناعة بأن المعارضين لحكامنا وأنظمتنا هم العدو الأكبر الذي علينا جلده وقتله وسجنه والانتقام منه ولكن إسرائيل جارة بيننا وبينها وفاق وميثاق ومصالح!
بل كيف تكون القدس قدسنا؟ ونحن الجيل الذي يؤمن ويروّج للمووكس والتعلم الإلكتروني فترانا عندما نبحث بالعربية على أكبر مواقع التعلم نجد الدورة الوحيدة بالعربية مقدمة من معهد “التخنيون” التكنولوجي والذي بدوره دشن موقعًا إلكترونيًا يدعم العربية ليوفر للدراسين العرب شروط التسجيل والالتحاق به، وكدارسين شباب فلنضع في أعيننا (حصوة ملح) كما يقولون عندما نتعلم منهم بلغتنا العربية!
وكيف تكون القدس قدسنا؟ وقد رأينا في “الهبّة” الفلسطسينية الأخيرة كما أسماها بعضهم خوفًا من أن تلمع في رؤسهم أنها “انتفاضة” ثالثة ولم يحرّك أحد حكامنا ساكنًا، وكأن الأمر لا يخصهم!، فهل نحن الشباب الطائش سنفهم أكثر من الحكام والإعلاميين؟ بالطبع لا، وإذا كان رب البيت بالتطنيش مُنعم.. فشيمة أهل البيت كلهم الصمت!
غيرت التكنولوجيا والإعلام والحكام وجيل آبائنا عقيدتنا وفكرتنا تجاه القدس، ولهذا سأمنع نفسي جبرًا على عدم إنشاد القصائد للقدس بل عدم الاستماع لها، فلم يعُد لدرويش ولا البرغوثي ولا الجخ مكان في رأسي، ولن يعُد “للمهندس الذي على الطريق” حكايات تُصبر عليّ العيش المُر، ولن يعُد لفيروز صوت في أذني، ولن أسمع مرة أخرى تفسير الشعرواي لسورة البقرة، ولن أُربي ابنتي الصغيرة على الاعتقاد بأن القدس جزء منها أوأنها قطعة من نفسها وأخشى عليها من القصائد وسأمنعها من سماعها، حتى لا تعيش التصادم الموحش الذي ستجده عندما تكبُر، لن أربيها على أن القدس قدسها.. لأنه لم تعُد القدس قدسي!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست