سألت أستاذي المتخصص في العلاقات الدولية في إحدى الجامعات البريطانية العريقة عن عزم دونالد ترامب ترشيح نفسه في انتخابات الرئاسة الأمريكية, ومدى احتمالية تسميته مرشح الحزب الجمهوري في انتخابات نوفمبر القادم, وهل حالة (الترامبية) نسبة إلى ترامب هي التي ستسيطر على سياسة البيت الأبيض حتى لو لم يفز ترامب نفسه في انتخابات الرئاسة الأمريكية. كنت أتصبب عرقًا من سذاجة هذا السؤال, فاجأني رده المختصر والبسيط «هذا العالم يجب أن يصاب بالجنون الكلي وليس النصفي, أتمنى نجاح ترامب نفسه».
كنت مذهولًا من رده, وبعد أن شكرته على رده على سؤالي أجاب «الله يبارك فيكم, نحن نتعلم منكم». يا له من رد ويا لها من إجابة.
بعد هجمات بروكسل تذكرت هذه المحادثة وتذكرت حالة (الترامبية) في التصريحات من الشخصيات الإسلامية والعربية, بل وتذكرت ترامب نفسه وهو يُذكَر أبناء جلدته بقوله «ألم أقل لكم بأن المسلمين إرهابيون, ألم أحذركم من اللاجئين, أليس معي كل الحق في منع المسلمين من دخول جنتنا وأرضنا: الولايات المتحدة الأمريكية». وقتها قفز في عقلي كل مجانين السياسة من نيرون إلى إيفان الرهيب إلى هتلر وموسوليني وستالين وبوش الابن، وآخرهم ترامب وغيرهم ممن لم يتسع المقام لذكرهم, والتاريخ مليء بالأوغاد المجانين الذين انتهجوا فلسفة نيتشه القائل «فلتحل اللعنة على كل من لا يتبع فلسفتي.. أما من يقدروها حق قدرها, فقد كتب عليهم أن يكونوا سادة العالم».
في الوقت الذي كانت تسيطر فيه في أوروبا حالة من الانقسام أو ظهور شخصية مثيرة للجدل تسعى لجر القارة العجوز إلى أتون الحرب, كان في الجانب الأمريكي شخصية تتمتع بقدر من الحكمة لوأد هذا الانقسام الذي ما أن تطور إلى حرب حتى كانت الولايات المتحدة تدخل بشكل حاسم مرجحةً الكفة التي كانت تنضم إليها، وتقلب الموازين رأسًا على عقب منهية هذه الحرب, فكيف إذا حدث وكان الشخص المعتلي لسدة الحكم الأمريكية هو المجنون أو المثير للجدل وكان الوضع في أوروبا في حالة الانقسام؟ في هذه السطور الموجزة القادمة سأشرح الحالة الأولى وهي الجنون الأوروبي مقابل بعض التعقل الأمريكي.
كانت النظرة الأمريكية إلى العالم ترى أنها هي الأمة الموعودة والمسئولة عن نشر وترسيخ قيم العدل والحرية والديمقراطية في أنحائه, أكسبت الحرب الإسبانية الأمريكية عام 1898 نفوذًا قويًا للولايات المتحدة بعد أن كانت دولة ذات نفوذ إقليمي أصبحت دولة كبرى استعمارية لها نفوذ عالمي قوي, مما جعلها بعد 6 سنوات من الحرب وسيطًا قويًا لإنهاء الحرب الروسية اليابانية عام 1904, حيث عقد الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت مؤتمرًا للسلام في بورتسماوث بولاية نيوهامبشاير واضعًا حدًا لهذه الحرب، ومُكسبًا الولايات المتحدة صيتًا عالميًّا باعتبارها دولة قادرة على حفظ الأمن الدولي بعد أن كانت بريطانيا قد اضطلعت بهذا الدور لعدة قرون.
ومرة أخرى في الحرب العالمية الأولى، أو الحرب الأوروبية كما يطلق عليها الأمريكيون, تثبت الولايات المتحدة بأنها الدولة ذات الثقل والقادرة على إيقاف أي جنون أوروبي حيث كان الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون قد أعلن عن نية بلاده عدم التدخل في هذه الحرب ونأى بنفسه عن أي استفزاز أوروبي قد يضطره للدخول، بالرغم من غرق عدة سفن تجارية أمريكية إلا أن برقية وزير خارجية ألمانيا للجانب المكسيكي بشن حرب على الولايات المتحدة قد غيَرت من مسار الحرب لتدخل الحرب رسميًّا في أبريل 1917 لتنتهي الحرب في صيف 1918 باستسلام الدول المنهزمة وآخرها ألمانيا في نوفمبر 1918.
وفي الحرب العالمية الثانية، تدخلت الولايات المتحدة بشكل رسمي في 4 يونيو 1942 لمشاركة القوات البريطانية ضد القوات الألمانية, كان التدخل الأمريكي حاسمًا كما العادة حيث انتهت الحرب بعدها بثلاث سنوات، بعد تسوية المدن الألمانية بالأرض، واستسلام اليابان بعد إلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما ونجازاكي, جاء الدور الأمريكي بإعمار الدول الأوروبية المتضررة والمنهكة من الحرب فيما عرف بخطة مارشال.
صاغت الولايات المتحدة رؤيتها السياسية والاقتصادية الخاصة بنظام عالمي جديد ما بعد الحرب، كان الهدف منه هو حل النزاعات السياسية بين الدول وعدم الانزلاق إلى حرب عالمية جديدة مدمرة, ولكن نظرتها الكونية هذه اصطدمت مع رؤية أخرى صاغها الاتحاد السوفييتي الساعي لنشر الشيوعية في أرجاء العالم، خصوصًا في أوروبا. ومن هنا بدأت الحرب الباردة والتي كان هدف كل رئيس للولايات المتحدة هو احتواء طموحات الاتحاد السوفييتي وردعه في وقت من الأوقات حتى سقوط جدار برلين عام 1989 وانهيار الاتحاد السوفييتي في ديسمبر 1991.
لا أعلم ما شكل العالم إذا فاز ترامب في الانتخابات الأمريكية, المؤكد أن حالة الجنون النصفي التي أدت إلى إلقاء قنبلة ذرية على اليابان أو التي رسخت لانقلابات عسكرية في أمريكا اللاتينية وفي آسيا وأفريقيا، أو التدخل العسكري في فيتنام وأفغانستان والعراق, أعتقد أن كل هذه الأحداث ستكون نزهة إذا فاز المرشح ترامب وتغلب الجنون الأمريكي على الجنون الأوروبي.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست