مقدمة
أفريقيا لها مكانة مهمة في العالم بشكل عام، وللولايات المتحدة بشكل خاص؛ نظرًا لغنى القارة بالموارد، خاصةً النفط؛ ففي العقدين الماضيين اجمع كلينتون وبوش وأوباما، على أهمية أفريقيا ومكانتها، واستحقاقها لاهتمام الولايات المتحدة والاستثمار؛ لأهميتها الاقتصادية والاستراتيجية للأمن القومي الأمريكي، وإن اختلفت أدوات كلٍّ منهما لتحقيق المصالح الأمريكية بين القوة الصلبة والقوة الناعمة أو الجمع بينهما.
أولًا: مفهوم المصلحة القومية الأمريكية
تتباين تعريفات المصلحة القومية، حسب الزاوية التي ينظر إليها منها فقد حصرها «هانز مورغانثو Hans Morgenthau» في الحفاظ على الوجود المادي للدولة كحد أدنى، وأن هذا هو أحد مظاهر الأمن؛ لذا فالأمن في حد ذاته هو المصلحة القومية [1]، لكن هذا الاتجاه التقليدي في حصر المصلحة القومية في تأمين حدود الدولة من الاعتداءات العسكرية الخارجية، قد اتهم بالقصور لأن مصلحة الدولة لا يمكن حصرها في البعد العسكري فحسب.
فقد عرف «والتر ليبمان W. Lipmman» الأمن القومي للدولة بأنه حماية الدولة من حيث كيانها المادي، وكذا قيمتها الجوهرية [2]، والقيم الجوهرية حسب ليبمان هي القيم الأساسية للمجتمع.
لكن هل يمكن حصر المصلحة القومية والأمن القومي لدولة ما في متغيرين فقط وهما المحافظة على الكيان المادي والقيم؟
إن تعدد وتنوع التهديدات والمخاطر، والتي برزت وصارت ذات أثر؛ خاصةً بعد الحرب الباردة، وزيادة حدة الاعتماد المتبادل، ومن ثَم الظواهر العابرة للحدود، ألزم الدول بأن تصيغ استراتيجية متعددة ليست متاحة لأي دولة مهما كان حجمها، وحجم تأثيرها في النسق الدولي؛ بل هي خاصة بالدول ذات الأهداف الطموحة، وهي بمعنى آخر الدول الكبرى، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية التي أعلنت صراحة أن طموحها الأسمى هو الهيمنة على النظام الدولي؛ أي على سير شئون وسلوك وحداته؛ لذا فإن مفهوم المصلحة القومية يختلف من دولة لأخرى حسب حجمها، وإمكاناتها المتاحة، إضافة إلى أن القوة العسكرية وحدها أثبتت فشلها في العديد من المناسبات، فرغم عتادها المتطور فشل المارينز في الصومال، وفي فيتنام ضد جماعات لا تملك إلا أسلحة خفيفة؛ بينما نجحت في حالات أخرى استخدمت فيها قوة مبادئها، فقد أخضعت رؤساء دول للمحاكمات تحت شعارات: حقوق الإنسان والديمقراطية وجرائم الحرب، أمثال الرئيس ميلوززفيتش، والرئيس الراحل صدام حسين (رحمه الله).
بينما تمثل التهديدات الحقيقية، ما تصرح به الأجهزة الرسمية في الإدارة الأمريكية، فأحد هذه التهديدات، ما جاء في بيان مدير المخابرات الأمريكية أمام مجلس الشيوخ تحت عنوان: «التهديدات العالمية في 2001م: الأمن القومي في عالم متغير»، جاء فيه أن الولايات المتحدة تواجه تهديدات صاروخية بالستية من عدة دول، لذا لا تعمل الولايات المتحدة على تطوير منظومة ردع الصواريخ[3]· وهذا أحد التهديدات، وليس ذكره إلا على سبيل التمثيل، وهذا ما يميز القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة عبر مختلف أقاليم العالم.
ولعل أهم ما يحكم المصلحة القومية الأمركية يمكن إجماله فيما يلي:
· محاصرة نقود الأقطاب لها في أي مكان في العالم، لذا يصدق قول: «الطبيعة لا تقبل الفراغ»؛ وذلك لضمان مكانتها المهيمنة على العالم.
· السيطرة على المناطق الغنية بالثروات المادية، وذات الموقع الاستراتيجي.
ثانيًا: أهداف الولايات المتحدة من التواجد في أفريقيا
كان اهتمام الولايات المتحدة بأفريقيا خلال الحرب الباردة منحصرًا في استراتيجية احتواء الشيوعية في كل الأقاليم التي تحاول بناء قاعدة فيها، لاسيما في الدول حديثة الاستقلال ومنها المتواجدة في أفريقيا، وبالمقابل دعم ونشر القيم الليبرالية تحت شعارات حقوق الإنسان والديمقراطية[1] هذا لا يعني أن هذين الهدفين كانا الوحيدين وإنما كانا يتصدران قائمة أولويات الأهداف الأمريكية في أفريقيا خلال هذه الفترة.
أما اليوم، وقد زال الخطر الشيوعي، وتزداد أهمية القضايا الاقتصادية في أجندة الشئون الدولية، فقد شرعت الولايات المتحدة في إحداث تغيرات اقتصادية وهيكلية في الدول الأفريقية بما يخدم مصالحها، وبذلك توسع قاعدة نفوذها الاقتصادي في أفريقيا، وكل في سبيل إقامة منطقة تجارة حرة بينها وبين أفريقيا في بداية 2020م[1] وتحت المتغير الاقتصادي تكمن عدة محركات لعل أكثرها تأثيرًا فيه مايلي:
· تحتوي أفريقيا على سوق كبيرة؛ إذ يقدر عدد سكانها بحوالي 700 مليون نسمة، وفتية؛ فهي سوق شغوفة للاستهلاك، وتحتوي العديد من الحواجز؛ لذا تعمل الولايات المتحدة على رفع حجم تجارتها البينية مع أفريقيا؛ إذ يشير تقرير وزارة التجارة الأمريكي عام 2002م، أن حجم التجارة الخارجية[2]، وهو رقم لم يكن من قبل؛ بل في تزايد مستمر، ولاسيما أنه في التقرير السنوي للرئيس الأمريكي، أمام الكونغرس في فبراير (شباط) 1997م، جاء فيه:
«إن النمو الاقتصادي لأفريقيا هو في صالح المصلحة القومية للولايات المتحدة الأمريكية»[3]
في أغسطس (آب) 2003م، كما تم دعم مفاوضات السلم عام 2003م، وتأييد الولايات المتحدة لاتفاق السلام في بورندي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2003م، كما ضغطت على حركة يونيتا في أنجولا لإنهاء الحرب الأهلية في أبريل (نيسان) 2002م[4]، وهذا- كما سبق الذكر- لتحمي أفريقيا مصالحها، ومناطق النفط، ومن جهة أخرى تعمل الولايات المتحدة على إدخال أفريقيا في مجال التبادل الحر خاصة في مجال المواد الأولية[5]؛ وذلك لتستفيد إلى أقصى درجة ممكنة من ثروات القارة، وهذا ما جاء على لسان «س.مورسيون Steve Morrison» مدير البرنامج الأفريقي في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)؛ إذ قال إن الولايات المتحدة تهدف إلى إشاعة الاستقرار في كل من كينيا وإثيوبيا والسودان ونيجيريا، شركاءً أساسيين في أي مبادرة سياسية، وتريد إيجاد إطار اقليمي لحل الأزمات المحلية»[6]؛ فهذه الدولة غير قادرة وعاجزة عن تسوية أزماتها بالاعتماد على نفسها، لذا تتكفل الولايات المتحدة بإرسال مؤطرين وتقنيين في هذا المجال، وقد تزايد اهتمام الولايات المتحدة بأفريقيا لعدة أسباب لعل أهمها:
الإرهاب؛ إذ ترى أن الحاجات الإنسانية المهمشة من قبل الدول الأفريقية العاجزة عن تلبية هذه الحاجات هو سبب هذا الإرهاب، إضافة إلى ذلك حماية الاستثمارات الأمريكية في القارة؛ لا سيما أن حوالي 22% من احتياجاتها النفطية تأتيها من أفريقيا[7]، وقد تعرضت أنابيب نقل النفط النيجيري من قبل للقصف.
ثالثًا: الوسائل الأمريكية المعتمدة في أفريقيا
تسعى الولايات المتحدة الأمريكية من خلال تواجدها بأفريقيا إلى تحقيق مجموعة من الأهداف، تعمل على تحقيقها بمختلف الوسائل المتاحة السياسية، والاقتصادية والأمنية، وتعززت هذه الآليات بشكل خاص بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001م؛ إذ صارت ترى أن الأمن والوجود الأمريكي مهددان نتيجة تعدد الأخطار على المستوى العالمي، ولهذا عملت على التواجد في كل الأقاليم المشكلة لبؤر التوتر على المستوى العالمي، ومنها أفريقيا التي تعتبر معقل لبعض الشبكات الإرهابية وللجريمة المنظمة والهجرة السرية، وتجارة المخدرات وغيرها من الأخطار.
على المستوى الاقتصادي:
كان أول اهتمام للولايات المتحدة الأمريكية بأفريقيا من هذا الجانب، ما بين سنتي 1992م: 1993م، مع Reman Brown سكرتير الدولة في التجارة، والذي زار خمس دول أفريقية هي ساحل العاج، وغانا، وكينيا، وأنغولا، وبوتساوانا، والتقى بمسئولين حكوميين وخواص لحوالي 40 دولة أفريقية، ومن خلال هذا اللقاء تم إنشاء مجلس التعاون الأفريقي Corporate Council of Africa[8]، ثم استراتيجيات اقتصادية أخرى تتمثل في دعم التجارة والاستثمار؛ إذ أقرت لجنة الاعتمادات بمجلس النواب الأمريكي تشريعًا يعطي حرية الدخول بدون جمارك للمزيد من منتجات دول إفريقيا إلى أسواق الولايات المتحدة الأمريكية؛ وذلك سنة 1998م، أما في سنة 1999م، وافقد رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، أثناء المؤتمر الأمريكي الأفريقي بواشنطن على إسقاط 70 مليار دولار ديون مستحقة على الدول الأفريقية، كما يرتكز الوجود الأمريكي في مناطق معينة مثل غانا في الغرب، أوغندا في الوسط، جنوب أفريقيا في جنوب القارة، من قبل الهيئة الأمريكية للاستثمار الخاص OPIC وهي هيئة تابعة للحكومة الأمريكية تعمل في مجال الاستثمار فيما وراء البحار. يبلغ رأسمال هذا الصندوق 350 مليون، 3/2 رأسماله من طرف الولايات المتحدة الأمريكية أو 3/1 من قبل المؤسسات الاستثمارية[9].
( AGOA3) ومدد إلى غاية عام 2015م[11].
كما أن المساعدات الأمريكية؛ أحد الوسائل الناجعة والتي نجحت الولايات المتحدة في استقطاب العديد القيادات الإفريقية بواسطتها، وستزيد إذ ستصبح 8.7 بليون دولار بحلول عام 2010م، بعدما كان حوالي 4 بليون عام 2004م[12]، إضافة إلى أنه في العشر سنوات المقبلة هناك شركات أمريكية ستستثمر في مجال النفط بحوالي 50 مليار دولار[13] لا سيما أن ربع احتياجات الولايات المتحدة ستكون من أفريقيا، وليست هذه الترتيبات الاقتصادية حديثة العهد؛ فقد أنشأ أحد المسئولين في الإدارة الأمريكية «Rom Brown» عام 1992م تعاونًا خاصًّا بالتبادل التجاري بين الولايات المتحدة ودول أفريقيا «Corporate councilon Africa» تحت عنوان «جلب رؤوس الأموال إلى أفريقيا»، وقد نجحت هذه المبادرة عام 1997 في حوالي 750 مستثمر[14].
وعلى المستوى العسكري:
حيث استهدفت به الولايات المتحدة، حماية ما نشأته على المستوى الاقتصادي، وركزت على أن تكون المبادرات في هذا المجال قوامها أفريقيا، ولا بأس أن تكون القيادة والتوجيه أمريكية بسبب عدم كفاءة هذه الدولة وهشاشة أجهزتها؛ فالدولة الفاشلة تستلزم تدخلًا قويًّا يقوِّم اختلالاتها. وعلى هذا الأساس تم تشكيل عدة أجهزة في هذا السياق منها: قوة التدخل الأفريقية لمواجهة الأزمات، وذلك استنادًا إلى المبادرة الخاصة بمواجهة الأزمات الأفريقية (ACIR)، ويتمثل الدور الأمريكي في التدريب وتوفير المعدات للأزمة، وتحقيق الترابط بين مختلف الدول الأطراف في هذه المبادرة، تتكون هذه القوة من حوالي اثني عشر ألف جندي أفريقي بقيادة ضباط أفارقة مؤهلين، ومن بين الدول الأطراف في هذه المبادرة: إثيوبيا، وغانا، والسنغال، وأوغندا، ومالاوي ومالي[15] رغم أن من شروط المشاركة في هذه المبادرة أن تحترم هذه الأنظمة حقوق الإنسان، وأن تكون الدولة ديمقراطية، وأن تتمتع بوضع عسكري يمكنها من الاستجابة لمتطلبات التدريب[16].
لكن هل يمكن أن تتفاءل الدول الأفريقية بهذه الممارسات؟ علمًا أن النفوذ الأجنبي في أي منطقة في العالم عامل معرقل لتجانسها ووحدتها.
فما الذي يجب أن تقوم به هذه الدول في مواجهة النفوذ الخارجي سواء كان أمريكيا أم غير ذلك؟ بالتركيز على الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها نموذجًا لهذه التدخلات الخارجية باسم المصلحة القومية، والتي وصلت إلى حد التدخل المباشر، مثلما حدث في ليبيريا عام 2003م.
رابعًا: أفريقيا في مواجهة النفوذ الأمريكي
هل ينبغي أن تتخلص أفريقيا نهائيًّا من أي علاقة تربطها بالولايات المتحدة؟ أم أن عليها الإبقاء على هذه العلاقة في حدود وأطر معينة؟ ما أنسب حل لأفريقيا؟
يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة بعد معرفة عوائد التواجد الأمريكي في أفريقيا، هل تجلب الولايات المتحدة لأفريقيا أرباحًا؟ أم العكس؟ ولا يهم إن كانت أرباح الولايات المتحدة من علاقتها بأفريقيا أكثر من أرباح هذه الأخيرة، لكن المهم هو أن لا تكون على حساب خسارتها، لأن الأرباح المطلقة Absolute Gains ستؤدي ثمارها بالتراكم عبر الزمن، لكن بطريقة محسوبة لا اعتباطية.
أول ما يمكن اقتراحه هو الإبقاء على العلاقات الأفروأمريكية، فهي وإن كانت سلبية فهي مفيدة في بعض جوانبها، فالمساعدات إذا كانت طرق تسييرها واستغلالها رشيدة وعقلانية ومنطقية؛ فستكون عوائدها إيجابية ولو على المدى البعيد.
إضافة إلى أن العزلة لم تعد ممكنة في زمن تعولمت فيه كل قضايا الأجندة الدولية، ولم يعد للدولة بمفردها القدرة الكافية للنهوض، والقيام بمختلف وظائفها الأساسية.
فالعلاقة مع الولايات المتحدة مفيدة إذا ابتعدت النخب الحاكمة عن اتخاذ القرارات المصيرية للدول انطلاقًا من الاعتبارات الشخصية؛ وإنما انطلاقًا من اعتبارات المصلحة العامة.
لكن لابد لدول أفريقيا أن تتعامل بحزم مع قضايا الاستغلال لثرواتها المادية، فالأولوية هي تحقيق الاكتفاء الذاتي لكل دولة، ثم تحقيق الاكتفاء الذاتي الإقليمي أو الجواري، وذلك بخلق شبكة من التبادلات مع الدول المجاورة في السلع التي تملكها إحدى هذه الدول ولا تملكها الدول الأخرى، هذا من شأنه خلق نسيج من العلاقات تساعد في مراحل لاحقة على اجتماع هذه الدول في إطار إقليمي.
الخاتمة:
الواقع أن أفريقيا ما هي إلا امتداد أو جزء من سياق شامل واستراتيجية متعددة الأبعاد، تعمل الولايات المتحدة على تحقيقها في عدة أقاليم من النظام الدولي؛ لذا تنظر أمريكا للعالم بمنطق النفط وتأمين المصالح الاقتصادية، كما تنظر إلى مواقعها على الخريطة الجيوسياسية على أنها معابر إستراتيجية ومراكز نفوذ عسكرية توظفها في سياق منافستها الدولية على زعامة النظام الدولي، وهذا المنطق في العقيدة الاستراتيجية الأمنية، ليس حديث العهد؛ بل يرجع إلى زمن بعيد، وذلك عندما خرجت- إن لم نقل قبل- خروجها من عزلتها وبداية تخطيطها لمسار تواجدها في النظام الدولي ليس لمجرد التواجد؛ بل التواجد والتأثير الاستراتيجي في الآخرين، أي جعلهم ينسقون وفقا لما تقتضيه مصلحتها؛ إذ تستعمل الولايات المتحدة في استقطاب هذه الدول وسائل تمتد من الشراكة وإقامة بنى تجارية تبادلية إلى التدخلات العسكرية المباشرة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست