كثيرا ما يراودني هذا السؤال بين الفينة والأخرى:«هل يعلم المغاربة –غير السود– أن مغاربةً آخرين –سود– يعيشون بالمغرب إلى جانبهم؟» سؤال ساذج طبعًا. غير أنني أحتار في إيجاد جواب مقنع وأتردد في حسم إجابتي بالإيجاب. مكمن المشكلة التي حسبتها في البداية شخصية فقط، إلى أن اطلعت على تجارب أخرى ليست بالقليلة، تكمن في عدم قدرة البعض على تمييز السود المغاربة من الأجانب. قد يجيب البعض قائلًا؛ إن ذلك مجرد سوء فهم يتعلق باللون، وسوء الفهم، وهذا قد استفحل أكثر مع توافد المهاجرين جنوب الصحراء، حتى اختلط الحابل بالنابل ولم يعد البعض قادرًا على التفريق بين (شْعبان) و(رمضان). عمومًا، سوء الفهم سرعان ما يزول تلقائيًّا أثناء التواصل. غير أن مكمن المشكلة أكبر من ذلك في الحقيقة.
أذكر جيدًا طالبة نيجيرية كانت تدرس معي في سنتي الجامعية الأولى. في أول حصة، ومن باب الترحيب بالأجانب ربما، أو مساعدتها على الاندماج أخذت الأستاذة تسألها من أين وكيف ولماذا؟ وبطريقة ما انتهى النقاش بينهما إلى الحديث عن الكاتب النيجيري شينوا أشيبي. بعد انتهاء الحديث مع الطالبة النيجيرية، استدارت الأستاذة نحوي، مرت على صفين كاملين وتوجهت لي سائلة بالإنجليزية «وأنت، من أين؟» في البداية حسبت السؤال موجهًا لشخص ما غيري. أدرت رأسي يمنة ويسارًا وأعين الجميع مصوبة نحوي قبل أن تضيف مؤكدة «نعم أنت». أجبتها والحيرة تعلو محياي «أنا من هنا يا أستاذة، أنا مغربي». كل ما أتذكره بعد ذلك هو سيل من الضحك واستدارت الأستاذة نحو مكتبها قائلة «آه اوكي».
مرت أكثر من خمس سنوات على تلك الواقعة وما زلت أتساءل، هل لون بشرتي الأسود هو ما أوحى لأستاذتي أنني طالب أجنبي، ولست مغربيًّا؟ هل لون بشرتي الأسود هو ما يجعل الأخرين – في وقائع أخرى لا يسعني الحديث عنها هنا – يجزمون بأنني لا أنتمي إلى هذا الوطن؟ هل لون بشرتي الأسود هو ما يدفعهم إلى التيقن أنني لا أتحدث لغتهم، فيخاطبونني في البداية بلغة أجنبية؟ هل لون بشرتي الأسود؟ هو السبب وراء كل هذه الأحكام المسبقة؟ نعم، هو كذلك.
أن تكون أسود البشرة، يعني أن تخرج من النظرة الأولى، بشكل مباشر أو غير مباشر، من دائرة الانتماء. هذا الخلط واللغط لا يدل إلا على رهاب اجتماعي ونفساني من السّواد. لقد ترسخت في الوعي الجمعي لأغلب المغاربة، فكرة أن المغرب (أبيض) الأصل وأن جميع ذوي البشرة السوداء، أُتِي بهم عن طريق تجارة الرقيق. لذلك تراهم يتملصون من كل ما هو أسود وله صلة بالقارة «السوداء». فتراهم مثلًا يصفون المهاجرين في جنوب الصحراء بالأفارقة، وكأن المغرب يوجد في قارة أخرى غير أفريقيا. وفي مقابل هذا الرهاب السوسيو-سيكولوجي من كل ما هو أسود، يوجد هوس شديد بالبياض رسخه الإعلام المرئي، صور المقررات الدراسية ومجلات المرأة والأزياء في مخيلة الكثير من المغاربة. وربما، قد يكون هذا الهوس بالبياض هو الذي يجعل البعض يتوهم أن كل شيء أسود، بما فيه ذوي البشرة السوداء، دخلاء ولا ينتمون إلى المغرب. وإلا فلماذا يتم تجنيس جميع ذوي البشرة السوداء في سلة واحدة، مغاربة كانوا أو أجانب، بدافع أحكام مسبقة أساسها الأول والأخير، لون البشرة فقط؟
يحتاج المجتمع المغربي إلى أن يتحرر من عقدته تجاه السواد، وإعادة النظر في علاقته بهذا المفهوم وبالتمثلات والأحكام المرتبطة به في وعيه الجمعي وثقافته الشعبية. جزء كبير من هذا يقتضي إعادة اكتشاف الأعراق والإثنيات المختلفة التي كونت المجتمع. أقصد بـ«إعادة اكتشاف»، معناها الحرفي بكل بساطة. أي أن يدرك أفراد هذا المجتمع أن ذوي البشرة السوداء، ومجموعات عرقية وإثنية أخرى، يتجذر انتماؤها لهذا الوطن منذ قرون. استيعاب هذه الحقيقة، كفيل بأن يجعل المرء يدرك أنه ما من داع ليصدر أحكامًا مسبقة تجاه الآخر، وبأن كل فرد داخل الوطن مهما كان لون بشرته، يتكلم اللغة التي يتكلمها الجميع حتى يثبت عكس ذلك إن كان أجنبيًّا.
لا يوجد أي سبب منطقي لكي تحكم مسبقًا –انطلاقا من لوني فقط– بأنني لا أنتمي إلى هذا الوطن. الحكم بذلك ولو عن غير قصد هو إنكار لهويتي. وأن تنكر هويتي معناه الكشف عن جهلك لمجتمع تعيش فيه. وهو ما يعني بدوره تأكيد تشخيصك بمرض «النيكروفوبيا» وبحاجتك الماسة إلى العلاج.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست