يقال إن «الانتقام رغبة يفضل أن تقدم باردة»، لكن لم تفطن البطلة في الرواية لتلك الحكمة، إلا بعد مرور وقت طويل؛ هذا الوقت تبادلت فيه البطلة والبطل الرسائل، التي كانت تتراوح بين الكلمات المعبرة عن الدهشة والتعجب، مرورًا بالغضب والانفعالات الحادة ثم أخيرًا التراشق بالألفاظ وتبادل الاتهامات؛ هناك انتقام صغير على الكلمات، لكن الكلمات يمكن أن تكون انتقامية إلى حدٍّ كبيرٍ (بنجامين فرانكلين).
رواية تحمل عبق الرسائل، وتنتمي لأدبها، وتجعل القارىء يفكر وينظر للأمور من زاويتين وأحيانًا من ثلاث وجهات نظر أو أكثر. الرسائل التي تبادلها البطلان الرئيسان تشغل حيزًا كبيرًا من الرواية، وجزء آخر خصص لرسائل بين الزوج وعشيقته!
أعترف أني كنت أتبنى وجهة نظر كل طرف من الأطراف الثلاثة، كل فصل، بناءً على الرسالة ووجهة نظر المرسل فيها، وهذا يعود في نظرى الفضل فيه للكاتبة التي كتبت باحترافية وموضوعية وجهات النظر الثلاث.
أما عن اقتباس (بنجامين فرانكلين) فهذه هي الإستراتيجية التي نفذها الأطراف الثلاثة، نحن نعرف أحداث الرواية على لسان أبطالها، ومن خلال الرسائل التي تبادلوها، الرواية تحكي عن امرأة خمسينية تفاجأ بقرار زوجها الانفصال عنها، بعد زواج دام 25 عامًا! فأرسلت له الرسالة الأولى تسأله عن أسباب القرار الذي فاجأها رد عليها برسالة يشرح أسبابه، وردت هي بتبرير ما أتى على ذكره في رسالته، وهكذا، ننتقل معهم من رسالةٍ لأخرى من اتهامٍ لآخر، كل طرف منهما يجد عنده الحق، ويجد الآخر مذنبا. أعتقد أن في العلاقات طويلة الأجل، نحسب أننا فهمنا شركاءنا، وأننا عرفناهم حقًّا، في حين أنه مع أول خلاف تبدو الفروقات، وتتمايز الأشياء وتظهر الحقيقة جلية لا لبس فيها.
عالجت الكاتبة أكثر من أزمة في الرواية، منها أزمة منتصف العمر، حين نصل للوقت الذي نحاسب فيه أنفسنا، عما فعلناه وما لم نفعله، وكما يقولون حين يمر الوقت لن تندم على الذي فعلته، بل عما لم تفعله، وأظن الزوج المغربي الأصل، والألماني الجنسية بعدما تزوج بيوليا عاش هذه الأزمة في خمسينياته، والتى بدت واضحة ودفعته دفعًا لطلب الانفصال، حين قابل فتاة لاجئة سورية شابة، في مقتبل العمر، عربية الأصل، فبدأ في عقد المقارنات بينها وبين زوجته الألمانية، بدءًا من العمر والشكل والطباع وانتهاءً بإحساسه تجاه كلتيهما؛ بينما تبدأ الرسائل بالعتاب الرقيق والاستعطاف من الزوجة، ويرد عليها عادل الزوج بالتبريرات، التي بدت لها ولنا كقراء تفاصيل صغيرة أو هفوات.
تعرضت أيضًا الكاتبة لأزمة اللاجئين وتواجدهم في أوروبا، ومدى مصداقية ترحيب الأوربيين بهم، وإن كان ظاهريًّا فقط أم أنه ترحيب حقيقي!
أزمة اخرى هي أزمة اختلاف الديانات، فيوليا مسيحية تظاهرت بدخولها في الاسلام لترضى عادل وأهله، في حين أنه هو على حد وصفها له وكلامه هو عن نفسه لم يكن مسلمًا ملتزمًا، وجوري اللاجئة السورية التي أحبها عادل، والتي كانت قصة حبهما هي السبب الحقيقي في طلبه الانفصال.
أعجبني الجزء الخاص بالكتابة، وكونها علاج وقادرة على أن تفرغ ما فينا من ألم، وتسكبه على الورق. كما أعجبني قراء كتب عن الانفصال ومحاولة تجاوز أزمة أن يقرر أحد الشريكين الانفصال، في حين يريد الآخر أن يكمل في العلاقة.
أما أكثر أزمات الرواية بروزًا، واستطاعت الكاتبة أن تكتبه باحترافية هو تناقضات الرجل الشرقي، الذي قضى نصف عمره في أوروبا، وارتدى كما يفعل الألمان، وتكلم وعاش مثلهم، كان يناقض نفسه في نظرته للمرأة والشرف وكل القضايا الشرقية.
اللغة التي كتبتها الأديبة، اللغة العربية الفصحى، وأحيانًا استخدمت بخفة دم بعض الأمثال الشعبية المغربية واللهجة المحببة للمغرب وسوريا! كما أوردت بعض المصطلحات بالألمانية، مما خدم عرض الثقافات المختلفة في الرواية، وأشعرني بالزخم والدسامة واتساع ثقافة الأديبة ريم نجمي.
أما عن النهاية، فجاءت مذهلة، وتتمة لما بدأته الروائية من رسائل، وكما افتتحت الرواية برسالةٍ من يوليا، أنهتها برسالةٍ منها، بعدما حدث الكثير في حياتها وحياة عادل.
رواية تستحق القراءة، وأنصح بها بشدةٍ لمن يريد أن يغوص في النفس البشرية ويحاول سبر أغوارها.
استمتعت بقراءتها بشدة وفي انتظار جديد الأديبة ريم نجمي.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست