مفهوم العدالة.. «ماعت»
كان المجتمع المصري مجتمعًا شديد النظام والطبقية، فكما كان التاسوع المقدس يتكون من طبقات كذلك المجتمع المصري بدءًا من الفرعون ابن الإله ثم الكهنة فالجنود والموظفين وأخيرًا عامة الشعب من صناع ومزارعين.
كانت الكلمة المستخدمة عند المصريين للدلالة على العدل والخير والصلاح ولعلها تتضمن كل هذه الأفكار كالخير الأقصى عند أفلاطون هي كلمة ماعت.
وكانت ماعت هي ابنة إله الشمس، ومن ثم كان إشعاعها يأتي من أعلى ليشمل الكون كله وهو تشابه آخر مع الصورة الأفلاطونية للخير.
لقد كانت الروح التي وراء الكون وتنفذ فيه، كانت «الطريق» بالمعنى الصوفي الذي كثيرًا ما يستخدم في الفكر الشرقي. وعند العبرانيين صارت «ماعت» الحكمة وفي المسيحية صارت المحبة.
كانت «ماعت» تملكًا روحيًا يستطيع الوصول إليه كل الناس، والعدالة «ماعت» هي كل ما هو أزلي فهي تبقى وتدوم برغم وجود الإهمال والتحدي والفساد.
رؤى مختلفة عن العدالة والحياة والموت
الرخاء المادي
في وثيقة «تعليمات إلى ميريكرع» وهو ابن حد الملوك، يحاول الملك في هذه الوثيقة الإجابة عن تساؤل كيف يمكن الحفاظ على نظام عادل للحكومة؟ ويؤكد في إجابته عن هذا التساؤل على أن الرخاء المادي هو أهم مقومات إقامة العدل وتحقيق العدالة.
«من هو غني في بيته، لا يعرف المحاباة، لأنه هو صاحب الملك، وليس بحاجة إلى شيء، ولكن الشخص الفقير لا يتحدث ضمن ما تملي عليه استقامته «ماعت»، إذ من يقول «لو كان لي» لن يكون منصفًا، وسيظهر محاباة لمن يستطيع مكافأته».
ولكنه يعود ويؤكد على قدرات الشخص المُختار للحكومة بجانب الرخاء المادي.
«سينصلح حال الحاكم ذي العقلية التي لا تعرف المحاباة».
الأخلاق النفعية
تعود وثيقة «بتاح حتب» إلى حوالي سنة 2880 ق.م، كتبها حاكم منف ورئيس وزراء الفرعون بعد تقاعده يحاول أن يجمع فيها وصاية الحكم الصائب بجانب الحياة الصالحة، ومن المرجح إنه قام بتوجيه هذه النصائح إلى ابنه ليكون وزيرًا ناجحًا.
بجانب القيم المعتادة من الصدق والأمانة والعدل، تؤكد الوثيقة على قيم الإنصات، الاستماع والصمت.
«لا تتحدث إلا إذا كنت على يقين أن ما تقوله سوف يُحدث فارقًا، بينما تتحول فضيلة الصمت إلى رذيلة في حضرة الجاهل، يلزم عليك الكلام ولكن في إطار آداب اللياقة والذوق».
«لا تكرر ما قاله أي إنسان أميرًا كان أم فلاحًا، عندما يفتح لك قلبه».
«الصمت أكثر فائدة لك من كثرة الكلام، خذ في اعتبارك أنه ربما عارضك خبير يتحدث في المجلس، فمن الحماقة الكلام في كل لون من ألوان العمل».
ويبدو بوضوح أن الوثيقة ذات نزعة نفعية واضحة، فهي تهدق لتحقيق مصلحة الفرد، حتى في نظرتها للصديق، فالصديق هو من يحقق لك النجاح ويدفعك له في حياتك.
الحاكم الصالح.. ونقد طبقة الموظفين
المثال التالي هو لقصة «الفلاح الفصيح»، وهذه القصة إلى جانب الناحية الأخلاقية التي تتحدث عنها، تقدم أقدم وأعظم نقد للطبقات العليا، وبصورة خاصة طبقة الموظفين.
القصة تحكي كيف أن فلاحًا بسيطًا كان يقود ماشيته بجانب أملاك رئيس خدم الملك، فخدعه موظف وشجعه على انتهاك حرمة أملاك رئيس الخدم والسماح لماشيته أن تقضم قمح السيد، فتم الاستيلاء على ما يملكه الفلاح من ماشية، كما ألقي القبض عليه.
لكن الفلاح يصمم أن يطرح قضيته على رئيس الخدم نفسه، ويحقق طلبه في سلسلة من تسعة أحاديث طويلة كل واحد منها بليغ وأكثر جرأة من الذي يسبقه، وفيها يقدم نقدًا شديدًا ويذكر كبار الموظفين ورئيس الخدم حتى الملك بأدوارهم وواجبتهم، وتنتهي القصة بانتصار الحاكم للفلاح وإلقاء القبض على الموظف المجرم ورد للفلاح ما يخصه.
لا تستخف نفسك، لأنك ثقيل الوزن،
لا تتكلم كلامًا زورًا، لأنك أنت الميزان،
لا تنحرف، لأنك تمثل الاستقامة.
وثيقة الفلاح الفصيح من الوثائق القليلة الاجتماعية التي تقر واجبات السادة تجاة خدامهم، وتعتمد هذه الواجبات على أنها المصدر الأول للاستقرار الاجتماعي، عكس كل حضارة في ذلك الوقت تقريبًا غير الحضارة المصرية قدمت واجبات الخدم تجاه السادة على أنها أساس الاستقرار الاجتماعي.
كذلك تقدم قصور الحكمة المطروحة في تعليمات ميريكرع وهي أن الموظف سيسعى إلى إقرار العدل بشرط أن يتقاضى أجرًا سخيًا!
على أن قصة الفلاح الفصيح تؤكد على طبقية المجتمع فهي لا تسعى لقلب النظام الاجتماعي رأسًا على عقب، بل استبدال الموظفين الجائرين بموظفين عادلين، ولكن الفلاحيين لا يأملون إلا أن يكونوا أكثر من فلاحين.
اللذة والسعادة
إذا كان الحاكم العادل وليس الرخاء المادي هو ضمان العدالة كما قدمت لذلك قصة الفلاح الفصيح، فماذا لو انقضى عهد الحكام العادلين، كيف تكون الحياة في عصر كهذا؟!
خلال قرون عديدة وعكس المتوقع، كان المصريون القدماء ينظرون إلى الأهرامات على أنها آثار قديمة، بقايا حضارة انقضى عهدها وأفكارها، حيث ما يطلق عليه عصر بناة الأهرام انتهى حوالي سنة 2500 ق.م، كان تاريخهم وتاريخ ملوكهم العظيم يرقد أطلالًا أمامهم، وكان التأمل فيه في لحظات الضعف يوحي بشعور بالغ الحزن والأسى.
مثال على ذلك الأغنية الشهيرة «عازف القيثار» التي كان يُتغنى بيها في الجنائز والحفلات باعتبارها تذكير بالموت ويرجع تاريخها لحوالي سنة 2200 ق.م.
تطلع إلى الأهرامات،
لقد تعرت جدرانها،
ولم يعد لأماكنها وجود،
كأن لم تكن لها قائمة قط،
لا يأتي أحد من هناك،
عله يخبرنا كيف رحلوا،
عله يخبرنا عن مصائرهم،
حتى يثلج صدورنا،
إلى أن نرحل نحن أيضًا،
إلى المكان الذي ولوا إليه،
شجع قلبك على أن ينساه.
إذا ما انقضى عهد الحكمة والعدالة، فما حال الإنسان إذًا؟، تدعو أغنية عازف القيثار الإنسان إلى أن يقبل مصيره المشئوم ويحاول نسيان فترات عظمة وحكمة الأجداد في تعبير عن تشاؤم جد عميق «شجع قلبك على أن ينساه» ، وأن يبحث المرء عن سعادته الخاصة، ويحاول أن يحصل على مباهج الدنيا قدر المستطاع قبل أن يرحل منها ويكون مصيره كمصير أجداده العظماء.
شجع قلبك على أن ينساه،
أدخل البهجة على نفسك لتحقيق رغبتك ما دمت على قيد الحياة،
زد من مباهجك،
لا تدع قلبك تفتر همته،
حقق رغبتك وما ترى فيه خيرك،
شكِّل أمورك على الأرض،
وفق ما يأمرك به قلبك أنت،
حتى يأتيك اليوم الذي تلقى فيه حتفك.
نزعات إنسانية
عادة في أعقاب حالات التدهور والضعف، يميل الإنسان الحكيم إلى نزعة إنسانية يركز فيها على المتع الحسية من النوع المهذب، التي قد لا تتعارض مع الأخلاق الاجتماعية ولكن تحقق مع ذلك قدر من السعادة الفردية للفرد، كما في أغنية «عازف القيثار».
في تأمل للكاهن خخبيري سونب يقول:
«إنني لأتأمل فيما قد حدث والنكبات تحدث اليوم، وغدًا لن تمضي المحن، وكل الناس صامتون حيالها برغم أن البلاد جميعها في اضطراب كبير … إن دائي طويل وثقيل. والفقير ليس له ما ينقذ به نفسه ممن يفوقونه قوة».
أما في حين يرى المتأمل ثاقب الفكر إخوانه من البشر وقد انهارت لديهم المعايير الأخلاقية، ومع ازدياد حالات اليأس وعدم وجود أي أمل في الأصلاح يلوح في الأفق، في هذه الحالات يزداد تبصر الفرد في طبيعة الأخلاق، ويبدأ في التأمل والوعي بذاته مقابل الآخرين والتساؤل عن الخلاص وما يحقق السعادة.
الخلاص في الموت
إن الحكيم المصري إيبوور، والذي كان مهتمًا كاهتمام كل فيلسوف عظيم بالظروف الإنسانية، يرى أن الموت هو الخلاص من الشرور الاجتماعية السائدة في عصره، في الفترة المظلمة في تاريخ مصر.
كان إيبور متشائمًا لدرجة أنه حاول أن يضع حدًا للشقاء الإنساني عن طريق انتحار الجنس البشري مبشرًا بآراء شوبنهور وتولستوي في العصر الحديث.
يجعل إيبوور الحياة وجهًا أسود قاتمًا ويجعل من الموت الخلاص الوحيد للإنسان، ويتابع قوله ملحًا على أن الحياة لا تستحق البقاء وأنه خير للمرء أن يسارع بالذهاب منها طواعية بارادته الحرة وقناعته التامة، الموقف الذي يذكرنا ببعض فلاسفة اليونان المتشائمين من الحياة والداعين إلى الخلاص منها.
لمن أتحدث اليوم! الأخوة الأشرار يخدع بعضهم بعضًا، قلوب جشعة، وكل امرئ يغتال متاع جاره، قد أُثقل كاهلي بالهموم، لقد اختفى الرجل الشريف من الوجود بينما يعيش الباغي المتعجرف فائزًا مظفرًا
لمن أتحدث اليوم! فإن الخائن صار أمينًا
لمن أتحدث اليوم! لا يوجد رجل عادل
يا ليت ينتهي أجل الناس حتى لا يكون هناك حمل ولا ميلاد!
التأمل الوجودي في الموت
يُعرّف أفلاطون الفلسفة على أنها «حوار النفس مع ذاتها»، فوعي الفرد بذاته هو تجربة داخلية لما يحدث في النفس عندما يكون الفرد في صراع وحوار مع نفسه وهو أقصى ما تصل إليه الفلسفة الإنسانية أو الوجودية، وأهم ما تم تدوينه عن تجربة الوعي الذاتي في الحضارة المصرية القديمة هو حوار «عدو البشر» مع نفسه الذي تم تدوينه على ورقة بردي يرجع تاريخها إلى عام 2000 ق.م.
ما حوَّل مزاج عدو البشر هو مجموعة من النكبات التي حلت به، فيبدو إنه عانى من مرض ألم به وفقد للأصدقاء والأملاك والشهرة على شاكلة النبي أيوب، وعند النقطة التي يفكر فيها جديًا في القضاء على حياته تستأنف ورقة البردي القصة في حوار بين الشخص التعس ونفسه.
«إن الموت كارثة، ولكن الموت في ظروف من البؤس والكراهية كارثة لا تعدلها كارثة، لماذا هذا الأمر كذلك؟ لأن المرء إذا جُرد من الوسائل وهجره أصدقائه لن يجد له مقبرة ولا من يحزن عليه.
وحتى أغنى جنازة هي مثار للسخرية، كما تبرهن على ذلك المقابر المهجورة للفراعنة والنبلاء
«فتحت نفسي فمها وأجابت على ما قلته: إذا تذكرت الدفن فهو حزن وذرف للدموع، هو أخذ الشخص من داره وإلقاؤه بعيدًا على مرتفع.
وبمعنى آخر، إذا كان موت فرعون في حقارته كحقارة موت عبد مجهول الاسم ساعد في بناء الهرم الملكي، لما تعجل أي امرئ حكيم حتفه بمحض إرادته».
إن تجربة عدو البشر في حواره مع نفسه تمر بأربع مراحل، تبدأ بالاشمئزاز من الذات إلى الإشفاق عليها في المرحلة الثانية، فهي تتساءل: أي سلوك يمكن أن يوثق به؟ فحتى الإخوة قد يتضح إنهم زائفون في حين أن «أصدقاء اليوم ليست صداقتهم عن حب». والشر يتزايد، والحياة الاجتماعية مهزلة لأنه «ليس هناك من شخص يمكن اللجوء إليه».
أما في المرحلة الثالثة وهي من أجمل المراحل حيث تتأمل الموت في هدوء على إنه الراحة النهائية من الهموم باعتبار أنه مصدر العدل المقدس.
الموت أمامي اليوم،
كالتريض في حديقة بعد مرض،
كالجلوس تحت شراع في يوم عاصف.
وتنتهي بالمرحلة الأخيرة حيث تزول الكآبة، فحيث إن الموت كارثة كحياة البؤس والكراهية فما عليك إلا أن تنسى الموت كأي حكيم وتتقبل ماهو محتوم على أمل أنه قد يؤدي إلى شيء أكثر من مجرد تحلل طبيعي.
وتنتهي إلى استنارة عدو البشر في رحلته الوجودية مع نفسه.
انعم باليوم السعيد وانس الهموم.
الخاتمة
يميل الكتاب الأخلاقيون إلى اعتبار «الوعي الأخلاقي» شيئًا قد تطور حديثًا فقط، لكن هذه النزعات الأخلاقية للحضارة المصرية القديمة تبرهن على أن الوعي الأخلاقي في قدمه كقدم التاريخ.
إن النزعات الأخلاقية للحضارة المصرية من طاعة القانون المقدس للفرعون، إلى إحساس الفرد بوعيه الاجتماعي وواجبه تجاه المجتمع، وأخيرًا اكتشاف ضميره الذاتي ووعيه الفردي بوجوده وما يتبعه من تقبل المسئولية الأخلاقية، ينم على التفوق الأخلاقي للحضارة المصرية على أية حضارة أخرى بجانبها أو أي حضارة أخرى من عصر لاحق قد أظهرت تطورًا يرقى للمقارنة.
إن الحضارة المصرية ليست فحسب أقدم وأعرق من أية حضارة معروفة، بل تعد أكبر مؤثر ثقافي وفلسفي للحضارات التي جاورتها أو أتت بعدها.
إن نماذج الفكر المصرية عن الإله والإنسان والخلود والحياة الصالحة هي الأولى من نوعها التي سجلت، بجانب أقدم مؤلف ميتافيزيقي معروف «أسطورة منف»، كل هذه النماذج كانت بداية الحكمة واستهلالها التي أضاءت الكثير من الحضارات اللاحقة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست